النجم البعيد
اجتاز باب الحديقة إلى فنائها الرحب ودار مع مماشيها ، ثم صعد الدرج وقد تملكه إحساس غامض لم يعرف مأتاه تماما ، ولم يكن ذلك للسكون المخيم على المكان ، أو الوحشة الشديدة البادية فيما حوله – لأن المنزل كان يقع فى نهاية هذه الضاحية "حلوان " من الجهة الشرقية وكانت الليلة ، على غير عادة ، شديدة البرد هوجاء الريح وإن كان الصيف على الأبواب – وإنما كان لشعور باطنى مبهم أستحوذ عليه فى تلك الساعة بشكل عجيب .. فراح يتصور معه أن زياراته لتلك الأسرة قد تكررت فى الشهور الأخيرة وتعددت لغير ما سبب قوى ظاهر ، وحتى زورته هذه مثلا فى مثل هذه الساعة من الليل – كانت الساعة لم تبلغ التاسعة – لم يكن يعرف الباعث عليها بالدقة ، وإن كان يردها للظروف القهرية التى جرته إلى هذه المدينة فى هذا اليوم ، ولم تخرج هذه الظروف القهرية عن زيارات لبعض معارفه الأبعدين ..!
بيد أنه قرر فيما بينه وبين نفسه وعزم وأكد وقطع – ولا بأس من هذا كله – على أن يخفف من زياراته فى المستقبل حتى يقصرها على زورة كل شهر ، وأن يروح يعتذر للسيدة والسيد – فى حالة الإلحاح الشديد من جانبهما طبعا – بأن أعماله الجديدة تتطلب منه ذلك ، ولم تتعد هذه الأعمال الجديدة التحاقه بالقسم الأدبى بإحدى الصحف الصغيرة ، وبدا له أن الخير كل الخير فى أن يفاتحهما بالأمر الليلة ..
وكان قد وصل إلى الباب الخارجى عندما وصلت أفكاره إلى هذا الحد ، فضغط زر الجرس ونشر وراءه أذنيه يتسمع وقع الصدى وصوت الأقدام ، فهفا إليه همس ارتفع إلى كلام متقطع عقبته خطوات عجلى ، وانفرج الباب ولاحت الخادم ..
- أوه .. سيدى رشاد ..
وكأنها ما كانت تتوقع ، ولا يتوقع أحد معها ، مجيئه فى هذه الساعة من الليل ..
- سيدك هنا ..؟
- لا .. سيدى خرج ..
واستدار صاحبنا وولى الخادم ظهره وفكر فى الرجوع ، فالوقت متأخر والزيارة – وإن كانت لأقربائه الأدنين – غير لائقة بالمرة فى الليل ، وفى الساعة التاسعة ، والرجل غائب ، على أن الخادم قطعت عليه سلسلة أفكاره بقولها :
- ستى عيانة ..
- مين ..؟
- ستى عيانة من مدة ..
***
ومشى رشاد متئد الخطى فجاز الردهة وقد أحس بضغط دمه وازدياد ضربات قلبه ، ولم يكن ذلك لأنه سمع أن إحدى قريباته مريضة ، فإن كان ساوره من أجلها – دون شك – إحساس العطف الشديد ، على أن الاضطراب العنيف الذى اعتراه فى هذا الوقت لم يكن مبعثه هذا الخاطر وحده ، وإنما كان لشدة هاجسه وتبلبل خاطره وثقل وطأة أحزانه عليه ، وما كان هذا منه بحسن وهو مقبل على مريضة أقل ما تحتاجه تهلل السريرة وانشراح الصدر ، وكان قد وصل إلى باب غرفة المريضة ، فأدارت له الوصيفة الباب برفق ودعته يدخل ، فمشى خفيف الخطى ، وكانت المريضة متطرحة على السرير ، فلما بصرت به أرادت أن تعتمد على مرافقها وتستوى جالسة فأسرع هو يمنعها من ذلك ويقول :
- كما أنت .. استريحى ..
وأخذ يدها مصافحا بحرارة ، وقد علت وجهها الشاحب حمرة خفيفة ، وند فمها عن ابتسامة حلوة وأشارات إليه ..
- إجلس ..
وكان الكرسى قرب السرير فدفعه إلى الوراء خطوتين فقالت برقة :
- لا .. لا يارشاد .. دع الكرسى مكانه ..
ورنت إليه وقالت بصوت خافت :
- إجلس هنا ..
فلم يكن بد من أن يذعن ..
وجلس يرقب وجهها المصفر .. وقد تغضن الجبين .. وتكسر الجفن .. وخفت أهداب العين .. وارتسم الأسى على الشفة العطشى .. والفم الحالم .. وخف ضياء البشرة .. وغاض ماء العينين .. أواه .. كل شيء فيها كان يبعث على الشفقة الشديدة والأسف العميق ، وعلق بصره بها وجلس صامتا ، فعز عليه هذا الصمت وثقلت وطأته على نفسه ، فود لو يفتح الحديث بكلمة ، بيد أن مجرد التفكير فى هذا أربكه وحيره حتى فاض وجهه بالحمرة ..!! وكانت المريضة ترمقه من وقت لآخر وكأنها تقول له بعينيها :
- مالك هكذا لا تتكلم ..؟ قل شيئا ..
وأخيرا خرج بصمته عن :
- لم لم تخبرينى بمرضك ..؟
- كنت أظنه لا يطول هكذا .. وحسبتها أنفلونزا خفيفة فإذا بها شديدة مضنية ..
فقال فى نفسه ساخرا " انفلونزا " لا بأس .. لا بأس .. ثم سأل :
- مريضة منذ ..؟
- أسبوع ..
- ولكنك الآن تسيرين إلى العافية بخطوات واسعة ..
- أبدا .. أنا أسير إلى القبر ..
- لا تقولى هذا .. لقد شفيت تماما ..
- نرجو من الله ذلك ..
وكانت قد برقت عيناها عنذئذ ثم تكسرت أجفانها مدة أطبقتها بعدها وكأنها تقول له دعنا من هذا الحديث إلى غيره أمتع ..
ثم قالت فجأة وهى تبسم :
- ما أذكر أنى رأيتك مريضا يا رشاد .. أما أنا فما أذكر أنى شفيت من مرض إلا لأعود لما هو شر منه ..
وكان ذلك حقا ، فما ذكر نفسه مرض مرضا عضالا طرحه على الفراش ، غير مرتين أو ثلاث فى شبابه كله ، وكان ذلك فى الوقت الذى يتخاذل فيه جسمه فلا يقوى معه على التماسك أو السير ، أما إذا تماسك واشتد قليلا ، خرج يؤم الحدائق ويمشى فى الهواء الطلق فيذهب ما به تماما ..
أما هى ، فلها الله ، فما كانت حياتها إلا سلسلة آلام جسمانية ونفسية لا حد لها ، فهى تسلخ العام كله تشكو وجع المفاصل وثورة الأعصاب وتضخم الكبد و .. ولم يكن أيسر عليها من أن ترضخ لحكم المرض ، وتقر بالأمر الواقع ، وتستسلم للفراش ..
وانقشعت عن المريضة سحابة جهمة غشيته هو بدوره ، فلم يحر جوابا ، واستطردت تقول :
وكان ألذ شيء عندها الحديث معه ..
- وكان حالنا على النقيض من ذلك ونحن طفلان صغيران ، فأنت كثير المرض ، وأنا موفورة الحظ من العافية ، فما أذكر أنى مرضت وأنا فتاة مرضا يستحق التنويه ، أما أنت ، فشد ما لذعت فؤاد أمك ، وكانت تود أن تضيف " وفؤادى أيضا " ولكنها لم تجرأ على هذا ..
وأردفت بحزن :
- أما لماذا أنا مريضة دائما بعد زواجى فلذلك ما لا أعرف كنهه ..
وصمتت بعد هذا ووجهها مربد متغير ..
وأخذ رشاد يحدث نفسه " لم لا تعرفين سبب مرضك الطويل ..؟ لماذا لا يعرف هؤلاء الأطباء الذين عالجوك كل هذه السنين منبع مرضك وأصل بلواك ..؟ لم لا أقول لها بشجاعة : إن زوجك المخمور المريض هو الذى جر عليك هذا البلاء ، وأنك كالزهرة التى تتطلب دائما حرارة الشمس وماء الأرض ، لتنضر وتتفتح عن أجمل كأس ، وأطيب أريج ، وإلا ذبلت وصوحت ..
***
ودقت الساعة المعلقة فى الردهة الحادية عشرة ..
ولم يعد الزوج بعد ..
لم يعد الرجل الذى تعلقت بأسبابه سعاد بعد ..
لم يعد الزوج ، وإن قرب الليل من منتصفه ، حتى فى الليالى التى تعانى فيها آلام الحمى وأوجاع المرض ..
لقد لفه الشيطان فى طياته ، فما عاد يفكر فى الزوجة ولا الأسرة ولا البيت ، إنه دائما يفكر فى نفسه ويعمل لنفسه ..
خرج الرجل عن الأسرة ، ونفض يده من البيت ، ولم يعد الرجل للمنزل ..
لقد كافح وجالد وغالب وهو على شط اليم ليحمله الموج إلى جوفه ، على أن الموج كان دائما يقذفه إلى الشاطئ لينطح رأسه بالصخور ، وليس عنده الرأس التى تتحمل نطح الصخور ، فليعش فى دنياه ، ولتعش المرأة فى دنياها ..
إنه لم يعد الرجل الذى يصلح للمرأة ..
لقد كافح وجالد وغالب ليصل حبل الأسباب التى تقطعت ، ويصلح الأمور التى فسدت ، على أن كل شيء كان يرتد إلى الضد على الأيام ..
لقد كافح وجالد وغالب ليسترد الزوجة الهاربة ، إنها كانت دائما هاربة ، حتى فى غضون الساعات التى يخلو فيها معها ، إنها دائما هاربة عن دنيا الرجل إلى دنياها ، فلا بد وأن يعيش فى دنياه ..
إنه لا يستطيع أن يطويها تحت جناحه ، وهى هاربة هكذا ، فليدعها تهرب ، وليهرب كما هربت ..
ما الذى يعمله الرجل مع الشذوذ فى الجنس ..؟ لا شيء ، لا حول للرجل فى هذا ولا قوة ..
لابد وأن يعيش لنفسه ..
يقامر ، ويغشى الحانات ، ويرود الأندية ، ويجلس مع الصحب ، ولا يفكر فى الزوجة مطلقا ، ولا يفكر فى المرأة مطلقا ، بعد أن لمس بيده ما بينهما من بعد ..
لقد لفه الشيطان فى جوفه ، فما عاد يفكر فى الزوجة ولا البنين ولا الأسرة ولا البيت ، وإنما يفكر فى نفسه ويعمل لنفسه ..
***
ونظر رشاد إلى سعاد فرأى وجهها يصفر ، بعد دقات الساعة ، اصفرار وجوه الموتى ، فعز عليه هذا وآلمه ، ورأى أن يصرف ذهنها عن الخواطر المروعة التى حلت بها ، فأمسك قميصًا حريريًا ملقى على كرسى على يسراه ، وقلبه بين يديه معجبًا ببراعة صنعه وسألها :
- لمن هذا ..؟
فصمتت كأنها ما سمعت ، ثم قالت ، بعد لأى ، بصوت خافت كأنها تحدث نفسها :
- له ..
- ومن حاكه بلباقة هكذا ..؟
فلمعت عيناها قليلاً .. وقالت :
- أنا طبعًا ..
وكان قد رجع إليها بعض الانشراح فأردفت :
- أول شيء حكته من الملابس ، وأنا صغيرة ، كان لك ..
- لى أنا ..؟
- أجل ، بدأت أتعلم الحياكة وأنا فتاة فى سن المراهقة ، أقيم عندكم فى الريف ، وكان أول ما عملت جلبابًا لك ..
وأمسكت بيدها ملاءة السرير وأخذت تفركها فى حركة عصبية وقلق باد ..
وقال رشاد وقد نكس رأسه :
- أشكرك ..
- لا .. أنا التى أشكرك لأنى لولاك ما عرفت شيئًا ..
فقال وقد سره هذا :
- ولكن لماذا كان الجلباب لى أنا ..؟ ولم يكن لمختار أو كمال أو عثمان " إخوته " ..
- لأن هؤلاء جميعًا كانوا قد شبوا عن الطوق وانخرطوا فى عداد الرجال ، أما أنت ، فكنت صبيًا فى السابعة ناحل الجسم ، كما أنت الآن ، ولكنك جميل الطلعة خفيف الظل ، وليس هذا حالك الآن طبعًا ..
واستضحكت مغمغمة بأشياء لم يتبينها ، ثم أضافت فى صوت ساحر :
ـ فما أثقل اليوم ظلك وأشد كبرياءك ..
ـ أشكرك ..
ـ العفو ..
وتطلعت بوجهها الباسم إليه ، وكان قد رفع وجهه إليها ، فتلاقت عيناهما ، ثم أطرق ثانية وخيم الصمت ..
وكان ابنها إسماعيل – غلام فى التاسعة – نائمًا فى ركن من الحجرة ، وقد دفع غطاءه عن جسمه ، فمشى رشاد إليه بخفة وضم الغطاء عليه كما كان ، ثم طبع على جبينه قبلة وعاد إلى مقعده ، فألفى سعاد تبتسم إبتسامة لم ترتسم على فمها من قبل أبدًا ، ثم تطورت الابتسامة حتى انقلبت ضحكة جذلة ، فلم يجد بدًا من أن يسأل :
- مم تضحكين ..؟
- ذكرت شيئًا على ذكر قبلتك لاسماعيل ..
- ما هو ..؟
- سر ..
- تخفينه عنى ..؟
- أجل ..!
فتجهم وجهه وتغيرت سحنته ..
فقالت قبل أن يتطور :
- أتود أن تعرفه ..؟
فلم يجاوبها وازداد وجهه عبوسًا ، فتجاهلت حاله وقالت :
- إستمع إلى اذن ..
وغيرت من لهجة صوتها وواصلت حديثها :
- كنت ولوعًا فى طفولتك بركوب الحمير .. وكان والدك ينهرك عن هذا ويزجرك ، ويخاف من شرها عليك ، وهو يعلم مبلغ حب أمك لك ، على أنك كنت لا تفتأ تتحين الفرص لركوبها ، وحدث مرة أن قدم ضيف على والدك فى القرية وتحته حمار جميل – ولا بأس من هذا – نزل عنه وربط لجامه فى سرجه ، بعد أن شده إليه بقوة ، وأنت تلهو فى فناء البيت ، فبصرت بالحمار فطرت إليه ، وجررته إلى الخارج فطاوعك ، وأخذت تنظر يمنة ويسرة باحثًا عمن يعينك على ركوبه ، وأنا فى شرفة المنزل أرقبك ضاحكة ، وكان الوقت ظهيرة ، والدنيا صيفا لافحا حره شديد قيظه ، وقد خلى المكان من كل أحد ، ووقفت تنظر للحمار يائسًا ، ثم إذا بك تبصر بجوار حائط بعيد دكة كان يسمر عليها القرويون ليالى الصيف ، فملت بالحمار إليها وارتقيتها واستويت عليه ، وأنا أرقص من الضحك ، وأخذت لجامه وعدوت به مقبلاً مدبرًا دقائق عدة ، ولكن يظهر أن اللعين مل هذه المداعبة السخيفة فى مثل هذا الحر القاتل ، فألقاك عن ظهره ، فوقعت على وجهك مطلقًا لحنجرتك المطواعة العنان ..!! فصرخت أنا ، وأرسلت الخادم إليك فجاءت بك وأنت تعول إعوالاً يقطع نياط القلب ، وأخذتك منها وحضنتك ومسحت ما علق بوجهك من التراب ، وكان قد شج صدغك وسال منه الدم ، فغسلته عنك بسرعة خوفاً من أن تراك أمك على هذه الحال فتجن ، ولم ألبث ، وقد رأيتك تتألم وتبكى أن حضنتك وملت على جبينك بفمى فقبلتك ، فتركت البكاء مرة واحدة ، وهويت بيدك الصغيرة على خدى وصفعتنى صفعة قوية ، وكانت هذه أول صفعة منك لأول قبلة منى ..
فقاض وجهه بالبشر وقال :
- وهل اقتصصت لنفسك ..؟
- يوه .. أبدًا .. ما كان أحد يجرؤ على أن يلمسك بطرف بنانه ، فلقد كنت مدللاً للغاية ، بيد أنى خفت بعد هذه الصفعة بأسك فما قبلتك وأنت صاح قط ، أما إذا جن الليل واحتواك الفراش وغرقت فى النوم قطعت فمك لثمًا ، وكثيرا ما كنت تنام معى ، وكم مرة حضنتك وأنت طفل صغير بارد الإحساس ..!
ونظرت إليه ووجهها ضاحك ..
فوضع يده على جبينه وأطرق مغالبًا انفعالاً باطنيًا شديدًا .. وسره تحسن حالها ، وجريان الدم فى عروقها ، وعودة الحياة تدب فى شرايينها ، فلم يشأ أن يشقق الحديث ، فقال وقد حول وجهه عنها :
- وأنا .. هل قبلتك بدورى فى ذلك الوقت ..؟
- أبدًا ما فعلتها قط فأنت دائمًا ..
ولم تتم كلامها ، بل نظرت إليه سادرة وصدرها يعلو ويهبط ..
- دائما ماذا ..؟
ورفع وجهه إليها ..
- لا أعرف ..
واغرورقت عيناها بالدمع بسرعة غريبة ، ثم سال دمعها على خدها ، وانطلقت بعد هذا تبكى فى صمت بكاءً مراً ، حتى أعولت ، فاستغرب لحالتها العصبية ، وقام عن كرسيه ، ووقف جنب سريرها ، وأمسك بيدها ليهدئ روعها ، فضغطت عليها بعنف ، وقد ازداد نحيبها ، وحرك يدها فى رفق ومسح عليها مهونًا ، وأراد أن يلمس كتفها وقد حولت وجهها عنه ودفنته فى الوسادة ، وهى تنشج نشيجا يمزق الصدر ، بيد أن إرادة قوية أمسكت بيده عن فعل هذا ، فوقف يتردد ، ثم تماسك وتجاسر ولمس كتفها فسرى فيه مثل الكهرباء ، وتدفق دمه فى عروقه ، ووجف قلبه وعلت أنفاسه ، وأدار كتفها ليرفع إليه وجهها ، فلاقته عيناها المخضلة فى نظرة طويلة أخاذة ، نفذت إلى قلبه ، واستحوذت على لبه ، فعلق بصره بوجهها ، وأخذا ينظران إلى بعضهما مدة طويلة ، وقد احتبس النفس .. وزاغ البصر .. وسكنت كل جارحة فى الجسم .. وسكنت كل خفقة للفؤاد .. وبقيا هكذا مدة ، حتى غشى عينيه ضباب كثيف ، وأمسى بعده لا يبصر ولا يعى شيئًا ، واستفاق على صوتها وهى تهزه هـزات عنيفة وتقول :
- أتحبنى أم لا ..؟
فوقف جامدًا كالمأخوذ متعجبًا من هذا السؤال الطارئ ..
وكررت ملحة :
ـ أتحبنى أم .. لا ..؟ أتحبنى أم لا ..؟ تكلم .. تكلم ..
وقد بدت التعاسة المرة على ملامح وجهها المضطرم ..
فقال بعد لأى بصوت خافت :
- أحبك ..
ولم يكن بد من هذا فى مثل هذا الموقف ، فمدت يدها بحركة عصبية عنيفة وأمسكت بيديه ، وجرته إليها بكل ما تملك من قوة ، ثم رفعت يديها بعد هذا إلى عنقه ، وقد استوت على سريرها محاولة أن تجذبه إلى صدرها ، ولكنه دفعها عنه برفق ، وكانت قد قامت فتشبثت بعنقه وارتمت على صدره ..
ولقد أثر فيه هذا تأثيرُا بليغًا فلف ذراعيه حولها ، وهم أن يهوى على فمها بقبلة ، ولكنه أحس بيد وضعت على عاتقه فجأة ، فجمد دمه وأحس ببرودة الثلج تسرى فى عموده الفقرى فجفل وتلفت مرتاعًا ، فإذا بابنها إسماعيل واقف بجواره ، وهو يبكى وينتحب ويهتف بأمه ..
وتلفتت الأم مذعورة فبصرت بإبنها ففتحت له ذراعيها ..
ـ إسماعيل .. إنت صحيت يا بابا .. تعال يا حبيبى .. تعال ..
وضمته إليها وهى تبكى بكاءً مرًا ..
***
وقف رشاد على إفريز المحطة يرقب القطار الذى سيقله إلى المدينة ، وهو مشتت الخاطر ذاهب اللب مروع الفؤاد ، وقد طافت برأسه شتى صور الصبا وأيامه ، فعاد يذكر سعاد فتاة فى سن المراهقة تمرح فى منزل والده فى الريف ، وتداعبه وتحنو عليه ، وهى عادة فى لباس من القطيفة الزرقاء شد على جسمها فأبرز مفاتنه وأظهر محاسنه ، ورجع يذكر ليالى الشتاء فى القرى ، وهى التى يحلو فيها السمر ويلذ الحديث وتروق الحكاية ، وذكر نفسه وهو جالس بجانبها منصتًا لأحاديث العجائز من القرويات ، وملتذًا بضحكاتها وتعليقاتها على كل قصة ..! فإذا أخذته عيناه نام فى مجلسه ، وصحا على حركتها وهى تحمله إلى فراشه ، ثم تقبله وتغطيه وقد تنام معه ، وما كان أحلى من لذة الدفء الذى كان يحسه وهو فى حضنها ، ثم حرارة شفتيها على شفتيه ، يالله للصبا وأيامه ..
ثم تصور نفسه بعد ذلك رجلاً ألقى بنفسه فى غمار الحياة ، ولكن الحياة أبدًا مدبرة عنه توليه ظهرها ، فقد عالج كل شيء وعاد من كل عمل بالخيبة المرة ، عالج الموسيقى ثم تحول عنها بعد الإخفاق إلى التدريس ، ثم نفض من هذه يده بعد أن ساءت حاله إلى الصحافة ، وصدف عن هذه إلى الأدب ، والأدب للفن ..! وأخفق فى هذا كله ، لم تكن حياته إلا سلسلة متعددة الحلقات من الخيبة المرة والتعاسة المضنية ليس إلا ..
على أنه لماذا أخفق ..؟ هلى كانت تنقصه الأداة ..؟ أكانت تنقصه الموهبة ..؟ أكان يعوزه الطبع ..؟ لا .. لا .. لقد كان قوى الأداة موهوبًا بالفطرة .. ولكنه كانت تعوزه الروح .. الروح .. الروح القوية الجارفة التى تطغى على كل شيء ، وتذلل كل عقبة ، وتعبد كل طريق ، لقد كان ينقصه القلب النابض بحرارة الحب لو أن هذه المخلوقة المنكودة قالت له منذ سنوات ما قالت له الليلة ، لبدل غير الرجل ، وأمسى غير الشريد المتشائم القوى الشك ، الضعيف الثقة بكل شيء فى الوجود .. هل يؤمن الآن بحبها ..؟ وهل يؤمن بالحب جملة .. لا .. لا .. هذه سخافات لا حد لها .. بيد أنه لم لا يحبها الآن بعد أن تيقن من حبها ثم يروح يستقبل الحياة من جديد ، ويمشى فى مسالكها بقلب مضئ ..
وكانت عيناه عند هذا قد لمحت ضوء القطار ، وهو قادم من بعيد ، ومقدمته تقدح الشرر وترمى اللهب ، ولمع الخط الحديدى عن بعد ، فرجف قلبه وغلى دمه وأخذ يرمق الخط ساهمًا ، وقد وقفت سلسلة أفكاره وجمد دمه فى عروقه وتصلبت عضلاته .. ماذا عليه لو أنهى حياته فى دقيقة واحدة فتطرح على هذا القضيب الحديدى ، وفى ثانية يتطاير فى الجو إربًا ، لماذا يعيش مخلوق مريض مثله ..؟ إن الحياة للأقوى والأصلح ، لا للمرضى والضعفاء أمثاله ، لا إرادة ولا قوة ولا أمل يبرق فى السماء ولا نجم يلوح فى الأفق ، لمن يعيش ..؟ وهتف به هاتف " عش لها " فأجابه مستخفًا " ومن هى ..؟ " إنه لم يعرفها بعد ، إنها ليست له .. إنها لرجل آخر .. أجل لرجل آخر ..
وتصورها .. وهى متمددة على السرير مريضة منكودة ، ونظراتها إليه ، فعاد دمه لهذا الخاطر يضطرب متدفقًا فى شرايينه ، وقالت له نفسه ، ماذا عليك لو ضممتها إليك مرة واحدة ، ثم أنهيت حياتك بيديك غير آسف على شيء فى الوجود ..؟ ماذا عليك لو ضممتها إلى صدرك مرة واحدة ..؟ ثم لتقم الساعة بعد ذلك .. مرة واحدة وليحدث الله بعد ذلك أمرًا ..
وتصور نفسه واضعًا فمه على فمها ، وهى بين ذراعيه ، فرفع عينيه إلى السماء ، وهو سادر ، والسحاب المركوم يتكاثف ليحجب سارى القمر والريح القوية ترنح سامق الشجر ، بيد أنه ما رأى القمر ولا أحس بالريح ، لقد كان كيانه كله محصورًا فى كيانها ، ماذا عليه لو ..
وقرع سمعه صفير القطار وهو داخل المحطة ، فانتبه مذعورًا ووقف يتردد ، هل يركب القطار أو يعود ..؟ يعود إلى أين ..؟ يعود إليها إنها تناديه ، إنها باسطة ذراعيها له ، إنها له وما كانت لسواه قط .. أبدًا أبدًا ما كانت لسواه ..
أجل فليرجع إليها ليكون لها إلى الأبد ..
وصفر القطار وتحرك ، وهو جامد كالتمثال ، ثم عدا ولحق بآخر عربة ، وجلس فى آخر مقعد ، يدخن ويرمق نجمًا بعيدًا فى الأفق ..
========================
نشرت القصة فى كتاب " رجل " سنة 1936
========================
النجم البعيد
اجتاز باب الحديقة إلى فنائها الرحب ودار مع مماشيها ، ثم صعد الدرج وقد تملكه إحساس غامض لم يعرف مأتاه تماما ، ولم يكن ذلك للسكون المخيم على المكان ، أو الوحشة الشديدة البادية فيما حوله – لأن المنزل كان يقع فى نهاية هذه الضاحية "حلوان " من الجهة الشرقية وكانت الليلة ، على غير عادة ، شديدة البرد هوجاء الريح وإن كان الصيف على الأبواب – وإنما كان لشعور باطنى مبهم أستحوذ عليه فى تلك الساعة بشكل عجيب .. فراح يتصور معه أن زياراته لتلك الأسرة قد تكررت فى الشهور الأخيرة وتعددت لغير ما سبب قوى ظاهر ، وحتى زورته هذه مثلا فى مثل هذه الساعة من الليل – كانت الساعة لم تبلغ التاسعة – لم يكن يعرف الباعث عليها بالدقة ، وإن كان يردها للظروف القهرية التى جرته إلى هذه المدينة فى هذا اليوم ، ولم تخرج هذه الظروف القهرية عن زيارات لبعض معارفه الأبعدين ..!
بيد أنه قرر فيما بينه وبين نفسه وعزم وأكد وقطع – ولا بأس من هذا كله – على أن يخفف من زياراته فى المستقبل حتى يقصرها على زورة كل شهر ، وأن يروح يعتذر للسيدة والسيد – فى حالة الإلحاح الشديد من جانبهما طبعا – بأن أعماله الجديدة تتطلب منه ذلك ، ولم تتعد هذه الأعمال الجديدة التحاقه بالقسم الأدبى بإحدى الصحف الصغيرة ، وبدا له أن الخير كل الخير فى أن يفاتحهما بالأمر الليلة ..
وكان قد وصل إلى الباب الخارجى عندما وصلت أفكاره إلى هذا الحد ، فضغط زر الجرس ونشر وراءه أذنيه يتسمع وقع الصدى وصوت الأقدام ، فهفا إليه همس ارتفع إلى كلام متقطع عقبته خطوات عجلى ، وانفرج الباب ولاحت الخادم ..
- أوه .. سيدى رشاد ..
وكأنها ما كانت تتوقع ، ولا يتوقع أحد معها ، مجيئه فى هذه الساعة من الليل ..
- سيدك هنا ..؟
- لا .. سيدى خرج ..
واستدار صاحبنا وولى الخادم ظهره وفكر فى الرجوع ، فالوقت متأخر والزيارة – وإن كانت لأقربائه الأدنين – غير لائقة بالمرة فى الليل ، وفى الساعة التاسعة ، والرجل غائب ، على أن الخادم قطعت عليه سلسلة أفكاره بقولها :
- ستى عيانة ..
- مين ..؟
- ستى عيانة من مدة ..
***
ومشى رشاد متئد الخطى فجاز الردهة وقد أحس بضغط دمه وازدياد ضربات قلبه ، ولم يكن ذلك لأنه سمع أن إحدى قريباته مريضة ، فإن كان ساوره من أجلها – دون شك – إحساس العطف الشديد ، على أن الاضطراب العنيف الذى اعتراه فى هذا الوقت لم يكن مبعثه هذا الخاطر وحده ، وإنما كان لشدة هاجسه وتبلبل خاطره وثقل وطأة أحزانه عليه ، وما كان هذا منه بحسن وهو مقبل على مريضة أقل ما تحتاجه تهلل السريرة وانشراح الصدر ، وكان قد وصل إلى باب غرفة المريضة ، فأدارت له الوصيفة الباب برفق ودعته يدخل ، فمشى خفيف الخطى ، وكانت المريضة متطرحة على السرير ، فلما بصرت به أرادت أن تعتمد على مرافقها وتستوى جالسة فأسرع هو يمنعها من ذلك ويقول :
- كما أنت .. استريحى ..
وأخذ يدها مصافحا بحرارة ، وقد علت وجهها الشاحب حمرة خفيفة ، وند فمها عن ابتسامة حلوة وأشارات إليه ..
- إجلس ..
وكان الكرسى قرب السرير فدفعه إلى الوراء خطوتين فقالت برقة :
- لا .. لا يارشاد .. دع الكرسى مكانه ..
ورنت إليه وقالت بصوت خافت :
- إجلس هنا ..
فلم يكن بد من أن يذعن ..
وجلس يرقب وجهها المصفر .. وقد تغضن الجبين .. وتكسر الجفن .. وخفت أهداب العين .. وارتسم الأسى على الشفة العطشى .. والفم الحالم .. وخف ضياء البشرة .. وغاض ماء العينين .. أواه .. كل شيء فيها كان يبعث على الشفقة الشديدة والأسف العميق ، وعلق بصره بها وجلس صامتا ، فعز عليه هذا الصمت وثقلت وطأته على نفسه ، فود لو يفتح الحديث بكلمة ، بيد أن مجرد التفكير فى هذا أربكه وحيره حتى فاض وجهه بالحمرة ..!! وكانت المريضة ترمقه من وقت لآخر وكأنها تقول له بعينيها :
- مالك هكذا لا تتكلم ..؟ قل شيئا ..
وأخيرا خرج بصمته عن :
- لم لم تخبرينى بمرضك ..؟
- كنت أظنه لا يطول هكذا .. وحسبتها أنفلونزا خفيفة فإذا بها شديدة مضنية ..
فقال فى نفسه ساخرا " انفلونزا " لا بأس .. لا بأس .. ثم سأل :
- مريضة منذ ..؟
- أسبوع ..
- ولكنك الآن تسيرين إلى العافية بخطوات واسعة ..
- أبدا .. أنا أسير إلى القبر ..
- لا تقولى هذا .. لقد شفيت تماما ..
- نرجو من الله ذلك ..
وكانت قد برقت عيناها عنذئذ ثم تكسرت أجفانها مدة أطبقتها بعدها وكأنها تقول له دعنا من هذا الحديث إلى غيره أمتع ..
ثم قالت فجأة وهى تبسم :
- ما أذكر أنى رأيتك مريضا يا رشاد .. أما أنا فما أذكر أنى شفيت من مرض إلا لأعود لما هو شر منه ..
وكان ذلك حقا ، فما ذكر نفسه مرض مرضا عضالا طرحه على الفراش ، غير مرتين أو ثلاث فى شبابه كله ، وكان ذلك فى الوقت الذى يتخاذل فيه جسمه فلا يقوى معه على التماسك أو السير ، أما إذا تماسك واشتد قليلا ، خرج يؤم الحدائق ويمشى فى الهواء الطلق فيذهب ما به تماما ..
أما هى ، فلها الله ، فما كانت حياتها إلا سلسلة آلام جسمانية ونفسية لا حد لها ، فهى تسلخ العام كله تشكو وجع المفاصل وثورة الأعصاب وتضخم الكبد و .. ولم يكن أيسر عليها من أن ترضخ لحكم المرض ، وتقر بالأمر الواقع ، وتستسلم للفراش ..
وانقشعت عن المريضة سحابة جهمة غشيته هو بدوره ، فلم يحر جوابا ، واستطردت تقول :
وكان ألذ شيء عندها الحديث معه ..
- وكان حالنا على النقيض من ذلك ونحن طفلان صغيران ، فأنت كثير المرض ، وأنا موفورة الحظ من العافية ، فما أذكر أنى مرضت وأنا فتاة مرضا يستحق التنويه ، أما أنت ، فشد ما لذعت فؤاد أمك ، وكانت تود أن تضيف " وفؤادى أيضا " ولكنها لم تجرأ على هذا ..
وأردفت بحزن :
- أما لماذا أنا مريضة دائما بعد زواجى فلذلك ما لا أعرف كنهه ..
وصمتت بعد هذا ووجهها مربد متغير ..
وأخذ رشاد يحدث نفسه " لم لا تعرفين سبب مرضك الطويل ..؟ لماذا لا يعرف هؤلاء الأطباء الذين عالجوك كل هذه السنين منبع مرضك وأصل بلواك ..؟ لم لا أقول لها بشجاعة : إن زوجك المخمور المريض هو الذى جر عليك هذا البلاء ، وأنك كالزهرة التى تتطلب دائما حرارة الشمس وماء الأرض ، لتنضر وتتفتح عن أجمل كأس ، وأطيب أريج ، وإلا ذبلت وصوحت ..
***
ودقت الساعة المعلقة فى الردهة الحادية عشرة ..
ولم يعد الزوج بعد ..
لم يعد الرجل الذى تعلقت بأسبابه سعاد بعد ..
لم يعد الزوج ، وإن قرب الليل من منتصفه ، حتى فى الليالى التى تعانى فيها آلام الحمى وأوجاع المرض ..
لقد لفه الشيطان فى طياته ، فما عاد يفكر فى الزوجة ولا الأسرة ولا البيت ، إنه دائما يفكر فى نفسه ويعمل لنفسه ..
خرج الرجل عن الأسرة ، ونفض يده من البيت ، ولم يعد الرجل للمنزل ..
لقد كافح وجالد وغالب وهو على شط اليم ليحمله الموج إلى جوفه ، على أن الموج كان دائما يقذفه إلى الشاطئ لينطح رأسه بالصخور ، وليس عنده الرأس التى تتحمل نطح الصخور ، فليعش فى دنياه ، ولتعش المرأة فى دنياها ..
إنه لم يعد الرجل الذى يصلح للمرأة ..
لقد كافح وجالد وغالب ليصل حبل الأسباب التى تقطعت ، ويصلح الأمور التى فسدت ، على أن كل شيء كان يرتد إلى الضد على الأيام ..
لقد كافح وجالد وغالب ليسترد الزوجة الهاربة ، إنها كانت دائما هاربة ، حتى فى غضون الساعات التى يخلو فيها معها ، إنها دائما هاربة عن دنيا الرجل إلى دنياها ، فلا بد وأن يعيش فى دنياه ..
إنه لا يستطيع أن يطويها تحت جناحه ، وهى هاربة هكذا ، فليدعها تهرب ، وليهرب كما هربت ..
ما الذى يعمله الرجل مع الشذوذ فى الجنس ..؟ لا شيء ، لا حول للرجل فى هذا ولا قوة ..
لابد وأن يعيش لنفسه ..
يقامر ، ويغشى الحانات ، ويرود الأندية ، ويجلس مع الصحب ، ولا يفكر فى الزوجة مطلقا ، ولا يفكر فى المرأة مطلقا ، بعد أن لمس بيده ما بينهما من بعد ..
لقد لفه الشيطان فى جوفه ، فما عاد يفكر فى الزوجة ولا البنين ولا الأسرة ولا البيت ، وإنما يفكر فى نفسه ويعمل لنفسه ..
***
ونظر رشاد إلى سعاد فرأى وجهها يصفر ، بعد دقات الساعة ، اصفرار وجوه الموتى ، فعز عليه هذا وآلمه ، ورأى أن يصرف ذهنها عن الخواطر المروعة التى حلت بها ، فأمسك قميصًا حريريًا ملقى على كرسى على يسراه ، وقلبه بين يديه معجبًا ببراعة صنعه وسألها :
- لمن هذا ..؟
فصمتت كأنها ما سمعت ، ثم قالت ، بعد لأى ، بصوت خافت كأنها تحدث نفسها :
- له ..
- ومن حاكه بلباقة هكذا ..؟
فلمعت عيناها قليلاً .. وقالت :
- أنا طبعًا ..
وكان قد رجع إليها بعض الانشراح فأردفت :
- أول شيء حكته من الملابس ، وأنا صغيرة ، كان لك ..
- لى أنا ..؟
- أجل ، بدأت أتعلم الحياكة وأنا فتاة فى سن المراهقة ، أقيم عندكم فى الريف ، وكان أول ما عملت جلبابًا لك ..
وأمسكت بيدها ملاءة السرير وأخذت تفركها فى حركة عصبية وقلق باد ..
وقال رشاد وقد نكس رأسه :
- أشكرك ..
- لا .. أنا التى أشكرك لأنى لولاك ما عرفت شيئًا ..
فقال وقد سره هذا :
- ولكن لماذا كان الجلباب لى أنا ..؟ ولم يكن لمختار أو كمال أو عثمان " إخوته " ..
- لأن هؤلاء جميعًا كانوا قد شبوا عن الطوق وانخرطوا فى عداد الرجال ، أما أنت ، فكنت صبيًا فى السابعة ناحل الجسم ، كما أنت الآن ، ولكنك جميل الطلعة خفيف الظل ، وليس هذا حالك الآن طبعًا ..
واستضحكت مغمغمة بأشياء لم يتبينها ، ثم أضافت فى صوت ساحر :
ـ فما أثقل اليوم ظلك وأشد كبرياءك ..
ـ أشكرك ..
ـ العفو ..
وتطلعت بوجهها الباسم إليه ، وكان قد رفع وجهه إليها ، فتلاقت عيناهما ، ثم أطرق ثانية وخيم الصمت ..
وكان ابنها إسماعيل – غلام فى التاسعة – نائمًا فى ركن من الحجرة ، وقد دفع غطاءه عن جسمه ، فمشى رشاد إليه بخفة وضم الغطاء عليه كما كان ، ثم طبع على جبينه قبلة وعاد إلى مقعده ، فألفى سعاد تبتسم إبتسامة لم ترتسم على فمها من قبل أبدًا ، ثم تطورت الابتسامة حتى انقلبت ضحكة جذلة ، فلم يجد بدًا من أن يسأل :
- مم تضحكين ..؟
- ذكرت شيئًا على ذكر قبلتك لاسماعيل ..
- ما هو ..؟
- سر ..
- تخفينه عنى ..؟
- أجل ..!
فتجهم وجهه وتغيرت سحنته ..
فقالت قبل أن يتطور :
- أتود أن تعرفه ..؟
فلم يجاوبها وازداد وجهه عبوسًا ، فتجاهلت حاله وقالت :
- إستمع إلى اذن ..
وغيرت من لهجة صوتها وواصلت حديثها :
- كنت ولوعًا فى طفولتك بركوب الحمير .. وكان والدك ينهرك عن هذا ويزجرك ، ويخاف من شرها عليك ، وهو يعلم مبلغ حب أمك لك ، على أنك كنت لا تفتأ تتحين الفرص لركوبها ، وحدث مرة أن قدم ضيف على والدك فى القرية وتحته حمار جميل – ولا بأس من هذا – نزل عنه وربط لجامه فى سرجه ، بعد أن شده إليه بقوة ، وأنت تلهو فى فناء البيت ، فبصرت بالحمار فطرت إليه ، وجررته إلى الخارج فطاوعك ، وأخذت تنظر يمنة ويسرة باحثًا عمن يعينك على ركوبه ، وأنا فى شرفة المنزل أرقبك ضاحكة ، وكان الوقت ظهيرة ، والدنيا صيفا لافحا حره شديد قيظه ، وقد خلى المكان من كل أحد ، ووقفت تنظر للحمار يائسًا ، ثم إذا بك تبصر بجوار حائط بعيد دكة كان يسمر عليها القرويون ليالى الصيف ، فملت بالحمار إليها وارتقيتها واستويت عليه ، وأنا أرقص من الضحك ، وأخذت لجامه وعدوت به مقبلاً مدبرًا دقائق عدة ، ولكن يظهر أن اللعين مل هذه المداعبة السخيفة فى مثل هذا الحر القاتل ، فألقاك عن ظهره ، فوقعت على وجهك مطلقًا لحنجرتك المطواعة العنان ..!! فصرخت أنا ، وأرسلت الخادم إليك فجاءت بك وأنت تعول إعوالاً يقطع نياط القلب ، وأخذتك منها وحضنتك ومسحت ما علق بوجهك من التراب ، وكان قد شج صدغك وسال منه الدم ، فغسلته عنك بسرعة خوفاً من أن تراك أمك على هذه الحال فتجن ، ولم ألبث ، وقد رأيتك تتألم وتبكى أن حضنتك وملت على جبينك بفمى فقبلتك ، فتركت البكاء مرة واحدة ، وهويت بيدك الصغيرة على خدى وصفعتنى صفعة قوية ، وكانت هذه أول صفعة منك لأول قبلة منى ..
فقاض وجهه بالبشر وقال :
- وهل اقتصصت لنفسك ..؟
- يوه .. أبدًا .. ما كان أحد يجرؤ على أن يلمسك بطرف بنانه ، فلقد كنت مدللاً للغاية ، بيد أنى خفت بعد هذه الصفعة بأسك فما قبلتك وأنت صاح قط ، أما إذا جن الليل واحتواك الفراش وغرقت فى النوم قطعت فمك لثمًا ، وكثيرا ما كنت تنام معى ، وكم مرة حضنتك وأنت طفل صغير بارد الإحساس ..!
ونظرت إليه ووجهها ضاحك ..
فوضع يده على جبينه وأطرق مغالبًا انفعالاً باطنيًا شديدًا .. وسره تحسن حالها ، وجريان الدم فى عروقها ، وعودة الحياة تدب فى شرايينها ، فلم يشأ أن يشقق الحديث ، فقال وقد حول وجهه عنها :
- وأنا .. هل قبلتك بدورى فى ذلك الوقت ..؟
- أبدًا ما فعلتها قط فأنت دائمًا ..
ولم تتم كلامها ، بل نظرت إليه سادرة وصدرها يعلو ويهبط ..
- دائما ماذا ..؟
ورفع وجهه إليها ..
- لا أعرف ..
واغرورقت عيناها بالدمع بسرعة غريبة ، ثم سال دمعها على خدها ، وانطلقت بعد هذا تبكى فى صمت بكاءً مراً ، حتى أعولت ، فاستغرب لحالتها العصبية ، وقام عن كرسيه ، ووقف جنب سريرها ، وأمسك بيدها ليهدئ روعها ، فضغطت عليها بعنف ، وقد ازداد نحيبها ، وحرك يدها فى رفق ومسح عليها مهونًا ، وأراد أن يلمس كتفها وقد حولت وجهها عنه ودفنته فى الوسادة ، وهى تنشج نشيجا يمزق الصدر ، بيد أن إرادة قوية أمسكت بيده عن فعل هذا ، فوقف يتردد ، ثم تماسك وتجاسر ولمس كتفها فسرى فيه مثل الكهرباء ، وتدفق دمه فى عروقه ، ووجف قلبه وعلت أنفاسه ، وأدار كتفها ليرفع إليه وجهها ، فلاقته عيناها المخضلة فى نظرة طويلة أخاذة ، نفذت إلى قلبه ، واستحوذت على لبه ، فعلق بصره بوجهها ، وأخذا ينظران إلى بعضهما مدة طويلة ، وقد احتبس النفس .. وزاغ البصر .. وسكنت كل جارحة فى الجسم .. وسكنت كل خفقة للفؤاد .. وبقيا هكذا مدة ، حتى غشى عينيه ضباب كثيف ، وأمسى بعده لا يبصر ولا يعى شيئًا ، واستفاق على صوتها وهى تهزه هـزات عنيفة وتقول :
- أتحبنى أم لا ..؟
فوقف جامدًا كالمأخوذ متعجبًا من هذا السؤال الطارئ ..
وكررت ملحة :
ـ أتحبنى أم .. لا ..؟ أتحبنى أم لا ..؟ تكلم .. تكلم ..
وقد بدت التعاسة المرة على ملامح وجهها المضطرم ..
فقال بعد لأى بصوت خافت :
- أحبك ..
ولم يكن بد من هذا فى مثل هذا الموقف ، فمدت يدها بحركة عصبية عنيفة وأمسكت بيديه ، وجرته إليها بكل ما تملك من قوة ، ثم رفعت يديها بعد هذا إلى عنقه ، وقد استوت على سريرها محاولة أن تجذبه إلى صدرها ، ولكنه دفعها عنه برفق ، وكانت قد قامت فتشبثت بعنقه وارتمت على صدره ..
ولقد أثر فيه هذا تأثيرُا بليغًا فلف ذراعيه حولها ، وهم أن يهوى على فمها بقبلة ، ولكنه أحس بيد وضعت على عاتقه فجأة ، فجمد دمه وأحس ببرودة الثلج تسرى فى عموده الفقرى فجفل وتلفت مرتاعًا ، فإذا بابنها إسماعيل واقف بجواره ، وهو يبكى وينتحب ويهتف بأمه ..
وتلفتت الأم مذعورة فبصرت بإبنها ففتحت له ذراعيها ..
ـ إسماعيل .. إنت صحيت يا بابا .. تعال يا حبيبى .. تعال ..
وضمته إليها وهى تبكى بكاءً مرًا ..
***
وقف رشاد على إفريز المحطة يرقب القطار الذى سيقله إلى المدينة ، وهو مشتت الخاطر ذاهب اللب مروع الفؤاد ، وقد طافت برأسه شتى صور الصبا وأيامه ، فعاد يذكر سعاد فتاة فى سن المراهقة تمرح فى منزل والده فى الريف ، وتداعبه وتحنو عليه ، وهى عادة فى لباس من القطيفة الزرقاء شد على جسمها فأبرز مفاتنه وأظهر محاسنه ، ورجع يذكر ليالى الشتاء فى القرى ، وهى التى يحلو فيها السمر ويلذ الحديث وتروق الحكاية ، وذكر نفسه وهو جالس بجانبها منصتًا لأحاديث العجائز من القرويات ، وملتذًا بضحكاتها وتعليقاتها على كل قصة ..! فإذا أخذته عيناه نام فى مجلسه ، وصحا على حركتها وهى تحمله إلى فراشه ، ثم تقبله وتغطيه وقد تنام معه ، وما كان أحلى من لذة الدفء الذى كان يحسه وهو فى حضنها ، ثم حرارة شفتيها على شفتيه ، يالله للصبا وأيامه ..
ثم تصور نفسه بعد ذلك رجلاً ألقى بنفسه فى غمار الحياة ، ولكن الحياة أبدًا مدبرة عنه توليه ظهرها ، فقد عالج كل شيء وعاد من كل عمل بالخيبة المرة ، عالج الموسيقى ثم تحول عنها بعد الإخفاق إلى التدريس ، ثم نفض من هذه يده بعد أن ساءت حاله إلى الصحافة ، وصدف عن هذه إلى الأدب ، والأدب للفن ..! وأخفق فى هذا كله ، لم تكن حياته إلا سلسلة متعددة الحلقات من الخيبة المرة والتعاسة المضنية ليس إلا ..
على أنه لماذا أخفق ..؟ هلى كانت تنقصه الأداة ..؟ أكانت تنقصه الموهبة ..؟ أكان يعوزه الطبع ..؟ لا .. لا .. لقد كان قوى الأداة موهوبًا بالفطرة .. ولكنه كانت تعوزه الروح .. الروح .. الروح القوية الجارفة التى تطغى على كل شيء ، وتذلل كل عقبة ، وتعبد كل طريق ، لقد كان ينقصه القلب النابض بحرارة الحب لو أن هذه المخلوقة المنكودة قالت له منذ سنوات ما قالت له الليلة ، لبدل غير الرجل ، وأمسى غير الشريد المتشائم القوى الشك ، الضعيف الثقة بكل شيء فى الوجود .. هل يؤمن الآن بحبها ..؟ وهل يؤمن بالحب جملة .. لا .. لا .. هذه سخافات لا حد لها .. بيد أنه لم لا يحبها الآن بعد أن تيقن من حبها ثم يروح يستقبل الحياة من جديد ، ويمشى فى مسالكها بقلب مضئ ..
وكانت عيناه عند هذا قد لمحت ضوء القطار ، وهو قادم من بعيد ، ومقدمته تقدح الشرر وترمى اللهب ، ولمع الخط الحديدى عن بعد ، فرجف قلبه وغلى دمه وأخذ يرمق الخط ساهمًا ، وقد وقفت سلسلة أفكاره وجمد دمه فى عروقه وتصلبت عضلاته .. ماذا عليه لو أنهى حياته فى دقيقة واحدة فتطرح على هذا القضيب الحديدى ، وفى ثانية يتطاير فى الجو إربًا ، لماذا يعيش مخلوق مريض مثله ..؟ إن الحياة للأقوى والأصلح ، لا للمرضى والضعفاء أمثاله ، لا إرادة ولا قوة ولا أمل يبرق فى السماء ولا نجم يلوح فى الأفق ، لمن يعيش ..؟ وهتف به هاتف " عش لها " فأجابه مستخفًا " ومن هى ..؟ " إنه لم يعرفها بعد ، إنها ليست له .. إنها لرجل آخر .. أجل لرجل آخر ..
وتصورها .. وهى متمددة على السرير مريضة منكودة ، ونظراتها إليه ، فعاد دمه لهذا الخاطر يضطرب متدفقًا فى شرايينه ، وقالت له نفسه ، ماذا عليك لو ضممتها إليك مرة واحدة ، ثم أنهيت حياتك بيديك غير آسف على شيء فى الوجود ..؟ ماذا عليك لو ضممتها إلى صدرك مرة واحدة ..؟ ثم لتقم الساعة بعد ذلك .. مرة واحدة وليحدث الله بعد ذلك أمرًا ..
وتصور نفسه واضعًا فمه على فمها ، وهى بين ذراعيه ، فرفع عينيه إلى السماء ، وهو سادر ، والسحاب المركوم يتكاثف ليحجب سارى القمر والريح القوية ترنح سامق الشجر ، بيد أنه ما رأى القمر ولا أحس بالريح ، لقد كان كيانه كله محصورًا فى كيانها ، ماذا عليه لو ..
وقرع سمعه صفير القطار وهو داخل المحطة ، فانتبه مذعورًا ووقف يتردد ، هل يركب القطار أو يعود ..؟ يعود إلى أين ..؟ يعود إليها إنها تناديه ، إنها باسطة ذراعيها له ، إنها له وما كانت لسواه قط .. أبدًا أبدًا ما كانت لسواه ..
أجل فليرجع إليها ليكون لها إلى الأبد ..
وصفر القطار وتحرك ، وهو جامد كالتمثال ، ثم عدا ولحق بآخر عربة ، وجلس فى آخر مقعد ، يدخن ويرمق نجمًا بعيدًا فى الأفق ..
========================
نشرت القصة فى كتاب " رجل " سنة 1936
========================
اجتاز باب الحديقة إلى فنائها الرحب ودار مع مماشيها ، ثم صعد الدرج وقد تملكه إحساس غامض لم يعرف مأتاه تماما ، ولم يكن ذلك للسكون المخيم على المكان ، أو الوحشة الشديدة البادية فيما حوله – لأن المنزل كان يقع فى نهاية هذه الضاحية "حلوان " من الجهة الشرقية وكانت الليلة ، على غير عادة ، شديدة البرد هوجاء الريح وإن كان الصيف على الأبواب – وإنما كان لشعور باطنى مبهم أستحوذ عليه فى تلك الساعة بشكل عجيب .. فراح يتصور معه أن زياراته لتلك الأسرة قد تكررت فى الشهور الأخيرة وتعددت لغير ما سبب قوى ظاهر ، وحتى زورته هذه مثلا فى مثل هذه الساعة من الليل – كانت الساعة لم تبلغ التاسعة – لم يكن يعرف الباعث عليها بالدقة ، وإن كان يردها للظروف القهرية التى جرته إلى هذه المدينة فى هذا اليوم ، ولم تخرج هذه الظروف القهرية عن زيارات لبعض معارفه الأبعدين ..!
بيد أنه قرر فيما بينه وبين نفسه وعزم وأكد وقطع – ولا بأس من هذا كله – على أن يخفف من زياراته فى المستقبل حتى يقصرها على زورة كل شهر ، وأن يروح يعتذر للسيدة والسيد – فى حالة الإلحاح الشديد من جانبهما طبعا – بأن أعماله الجديدة تتطلب منه ذلك ، ولم تتعد هذه الأعمال الجديدة التحاقه بالقسم الأدبى بإحدى الصحف الصغيرة ، وبدا له أن الخير كل الخير فى أن يفاتحهما بالأمر الليلة ..
وكان قد وصل إلى الباب الخارجى عندما وصلت أفكاره إلى هذا الحد ، فضغط زر الجرس ونشر وراءه أذنيه يتسمع وقع الصدى وصوت الأقدام ، فهفا إليه همس ارتفع إلى كلام متقطع عقبته خطوات عجلى ، وانفرج الباب ولاحت الخادم ..
- أوه .. سيدى رشاد ..
وكأنها ما كانت تتوقع ، ولا يتوقع أحد معها ، مجيئه فى هذه الساعة من الليل ..
- سيدك هنا ..؟
- لا .. سيدى خرج ..
واستدار صاحبنا وولى الخادم ظهره وفكر فى الرجوع ، فالوقت متأخر والزيارة – وإن كانت لأقربائه الأدنين – غير لائقة بالمرة فى الليل ، وفى الساعة التاسعة ، والرجل غائب ، على أن الخادم قطعت عليه سلسلة أفكاره بقولها :
- ستى عيانة ..
- مين ..؟
- ستى عيانة من مدة ..
***
ومشى رشاد متئد الخطى فجاز الردهة وقد أحس بضغط دمه وازدياد ضربات قلبه ، ولم يكن ذلك لأنه سمع أن إحدى قريباته مريضة ، فإن كان ساوره من أجلها – دون شك – إحساس العطف الشديد ، على أن الاضطراب العنيف الذى اعتراه فى هذا الوقت لم يكن مبعثه هذا الخاطر وحده ، وإنما كان لشدة هاجسه وتبلبل خاطره وثقل وطأة أحزانه عليه ، وما كان هذا منه بحسن وهو مقبل على مريضة أقل ما تحتاجه تهلل السريرة وانشراح الصدر ، وكان قد وصل إلى باب غرفة المريضة ، فأدارت له الوصيفة الباب برفق ودعته يدخل ، فمشى خفيف الخطى ، وكانت المريضة متطرحة على السرير ، فلما بصرت به أرادت أن تعتمد على مرافقها وتستوى جالسة فأسرع هو يمنعها من ذلك ويقول :
- كما أنت .. استريحى ..
وأخذ يدها مصافحا بحرارة ، وقد علت وجهها الشاحب حمرة خفيفة ، وند فمها عن ابتسامة حلوة وأشارات إليه ..
- إجلس ..
وكان الكرسى قرب السرير فدفعه إلى الوراء خطوتين فقالت برقة :
- لا .. لا يارشاد .. دع الكرسى مكانه ..
ورنت إليه وقالت بصوت خافت :
- إجلس هنا ..
فلم يكن بد من أن يذعن ..
وجلس يرقب وجهها المصفر .. وقد تغضن الجبين .. وتكسر الجفن .. وخفت أهداب العين .. وارتسم الأسى على الشفة العطشى .. والفم الحالم .. وخف ضياء البشرة .. وغاض ماء العينين .. أواه .. كل شيء فيها كان يبعث على الشفقة الشديدة والأسف العميق ، وعلق بصره بها وجلس صامتا ، فعز عليه هذا الصمت وثقلت وطأته على نفسه ، فود لو يفتح الحديث بكلمة ، بيد أن مجرد التفكير فى هذا أربكه وحيره حتى فاض وجهه بالحمرة ..!! وكانت المريضة ترمقه من وقت لآخر وكأنها تقول له بعينيها :
- مالك هكذا لا تتكلم ..؟ قل شيئا ..
وأخيرا خرج بصمته عن :
- لم لم تخبرينى بمرضك ..؟
- كنت أظنه لا يطول هكذا .. وحسبتها أنفلونزا خفيفة فإذا بها شديدة مضنية ..
فقال فى نفسه ساخرا " انفلونزا " لا بأس .. لا بأس .. ثم سأل :
- مريضة منذ ..؟
- أسبوع ..
- ولكنك الآن تسيرين إلى العافية بخطوات واسعة ..
- أبدا .. أنا أسير إلى القبر ..
- لا تقولى هذا .. لقد شفيت تماما ..
- نرجو من الله ذلك ..
وكانت قد برقت عيناها عنذئذ ثم تكسرت أجفانها مدة أطبقتها بعدها وكأنها تقول له دعنا من هذا الحديث إلى غيره أمتع ..
ثم قالت فجأة وهى تبسم :
- ما أذكر أنى رأيتك مريضا يا رشاد .. أما أنا فما أذكر أنى شفيت من مرض إلا لأعود لما هو شر منه ..
وكان ذلك حقا ، فما ذكر نفسه مرض مرضا عضالا طرحه على الفراش ، غير مرتين أو ثلاث فى شبابه كله ، وكان ذلك فى الوقت الذى يتخاذل فيه جسمه فلا يقوى معه على التماسك أو السير ، أما إذا تماسك واشتد قليلا ، خرج يؤم الحدائق ويمشى فى الهواء الطلق فيذهب ما به تماما ..
أما هى ، فلها الله ، فما كانت حياتها إلا سلسلة آلام جسمانية ونفسية لا حد لها ، فهى تسلخ العام كله تشكو وجع المفاصل وثورة الأعصاب وتضخم الكبد و .. ولم يكن أيسر عليها من أن ترضخ لحكم المرض ، وتقر بالأمر الواقع ، وتستسلم للفراش ..
وانقشعت عن المريضة سحابة جهمة غشيته هو بدوره ، فلم يحر جوابا ، واستطردت تقول :
وكان ألذ شيء عندها الحديث معه ..
- وكان حالنا على النقيض من ذلك ونحن طفلان صغيران ، فأنت كثير المرض ، وأنا موفورة الحظ من العافية ، فما أذكر أنى مرضت وأنا فتاة مرضا يستحق التنويه ، أما أنت ، فشد ما لذعت فؤاد أمك ، وكانت تود أن تضيف " وفؤادى أيضا " ولكنها لم تجرأ على هذا ..
وأردفت بحزن :
- أما لماذا أنا مريضة دائما بعد زواجى فلذلك ما لا أعرف كنهه ..
وصمتت بعد هذا ووجهها مربد متغير ..
وأخذ رشاد يحدث نفسه " لم لا تعرفين سبب مرضك الطويل ..؟ لماذا لا يعرف هؤلاء الأطباء الذين عالجوك كل هذه السنين منبع مرضك وأصل بلواك ..؟ لم لا أقول لها بشجاعة : إن زوجك المخمور المريض هو الذى جر عليك هذا البلاء ، وأنك كالزهرة التى تتطلب دائما حرارة الشمس وماء الأرض ، لتنضر وتتفتح عن أجمل كأس ، وأطيب أريج ، وإلا ذبلت وصوحت ..
***
ودقت الساعة المعلقة فى الردهة الحادية عشرة ..
ولم يعد الزوج بعد ..
لم يعد الرجل الذى تعلقت بأسبابه سعاد بعد ..
لم يعد الزوج ، وإن قرب الليل من منتصفه ، حتى فى الليالى التى تعانى فيها آلام الحمى وأوجاع المرض ..
لقد لفه الشيطان فى طياته ، فما عاد يفكر فى الزوجة ولا الأسرة ولا البيت ، إنه دائما يفكر فى نفسه ويعمل لنفسه ..
خرج الرجل عن الأسرة ، ونفض يده من البيت ، ولم يعد الرجل للمنزل ..
لقد كافح وجالد وغالب وهو على شط اليم ليحمله الموج إلى جوفه ، على أن الموج كان دائما يقذفه إلى الشاطئ لينطح رأسه بالصخور ، وليس عنده الرأس التى تتحمل نطح الصخور ، فليعش فى دنياه ، ولتعش المرأة فى دنياها ..
إنه لم يعد الرجل الذى يصلح للمرأة ..
لقد كافح وجالد وغالب ليصل حبل الأسباب التى تقطعت ، ويصلح الأمور التى فسدت ، على أن كل شيء كان يرتد إلى الضد على الأيام ..
لقد كافح وجالد وغالب ليسترد الزوجة الهاربة ، إنها كانت دائما هاربة ، حتى فى غضون الساعات التى يخلو فيها معها ، إنها دائما هاربة عن دنيا الرجل إلى دنياها ، فلا بد وأن يعيش فى دنياه ..
إنه لا يستطيع أن يطويها تحت جناحه ، وهى هاربة هكذا ، فليدعها تهرب ، وليهرب كما هربت ..
ما الذى يعمله الرجل مع الشذوذ فى الجنس ..؟ لا شيء ، لا حول للرجل فى هذا ولا قوة ..
لابد وأن يعيش لنفسه ..
يقامر ، ويغشى الحانات ، ويرود الأندية ، ويجلس مع الصحب ، ولا يفكر فى الزوجة مطلقا ، ولا يفكر فى المرأة مطلقا ، بعد أن لمس بيده ما بينهما من بعد ..
لقد لفه الشيطان فى جوفه ، فما عاد يفكر فى الزوجة ولا البنين ولا الأسرة ولا البيت ، وإنما يفكر فى نفسه ويعمل لنفسه ..
***
ونظر رشاد إلى سعاد فرأى وجهها يصفر ، بعد دقات الساعة ، اصفرار وجوه الموتى ، فعز عليه هذا وآلمه ، ورأى أن يصرف ذهنها عن الخواطر المروعة التى حلت بها ، فأمسك قميصًا حريريًا ملقى على كرسى على يسراه ، وقلبه بين يديه معجبًا ببراعة صنعه وسألها :
- لمن هذا ..؟
فصمتت كأنها ما سمعت ، ثم قالت ، بعد لأى ، بصوت خافت كأنها تحدث نفسها :
- له ..
- ومن حاكه بلباقة هكذا ..؟
فلمعت عيناها قليلاً .. وقالت :
- أنا طبعًا ..
وكان قد رجع إليها بعض الانشراح فأردفت :
- أول شيء حكته من الملابس ، وأنا صغيرة ، كان لك ..
- لى أنا ..؟
- أجل ، بدأت أتعلم الحياكة وأنا فتاة فى سن المراهقة ، أقيم عندكم فى الريف ، وكان أول ما عملت جلبابًا لك ..
وأمسكت بيدها ملاءة السرير وأخذت تفركها فى حركة عصبية وقلق باد ..
وقال رشاد وقد نكس رأسه :
- أشكرك ..
- لا .. أنا التى أشكرك لأنى لولاك ما عرفت شيئًا ..
فقال وقد سره هذا :
- ولكن لماذا كان الجلباب لى أنا ..؟ ولم يكن لمختار أو كمال أو عثمان " إخوته " ..
- لأن هؤلاء جميعًا كانوا قد شبوا عن الطوق وانخرطوا فى عداد الرجال ، أما أنت ، فكنت صبيًا فى السابعة ناحل الجسم ، كما أنت الآن ، ولكنك جميل الطلعة خفيف الظل ، وليس هذا حالك الآن طبعًا ..
واستضحكت مغمغمة بأشياء لم يتبينها ، ثم أضافت فى صوت ساحر :
ـ فما أثقل اليوم ظلك وأشد كبرياءك ..
ـ أشكرك ..
ـ العفو ..
وتطلعت بوجهها الباسم إليه ، وكان قد رفع وجهه إليها ، فتلاقت عيناهما ، ثم أطرق ثانية وخيم الصمت ..
وكان ابنها إسماعيل – غلام فى التاسعة – نائمًا فى ركن من الحجرة ، وقد دفع غطاءه عن جسمه ، فمشى رشاد إليه بخفة وضم الغطاء عليه كما كان ، ثم طبع على جبينه قبلة وعاد إلى مقعده ، فألفى سعاد تبتسم إبتسامة لم ترتسم على فمها من قبل أبدًا ، ثم تطورت الابتسامة حتى انقلبت ضحكة جذلة ، فلم يجد بدًا من أن يسأل :
- مم تضحكين ..؟
- ذكرت شيئًا على ذكر قبلتك لاسماعيل ..
- ما هو ..؟
- سر ..
- تخفينه عنى ..؟
- أجل ..!
فتجهم وجهه وتغيرت سحنته ..
فقالت قبل أن يتطور :
- أتود أن تعرفه ..؟
فلم يجاوبها وازداد وجهه عبوسًا ، فتجاهلت حاله وقالت :
- إستمع إلى اذن ..
وغيرت من لهجة صوتها وواصلت حديثها :
- كنت ولوعًا فى طفولتك بركوب الحمير .. وكان والدك ينهرك عن هذا ويزجرك ، ويخاف من شرها عليك ، وهو يعلم مبلغ حب أمك لك ، على أنك كنت لا تفتأ تتحين الفرص لركوبها ، وحدث مرة أن قدم ضيف على والدك فى القرية وتحته حمار جميل – ولا بأس من هذا – نزل عنه وربط لجامه فى سرجه ، بعد أن شده إليه بقوة ، وأنت تلهو فى فناء البيت ، فبصرت بالحمار فطرت إليه ، وجررته إلى الخارج فطاوعك ، وأخذت تنظر يمنة ويسرة باحثًا عمن يعينك على ركوبه ، وأنا فى شرفة المنزل أرقبك ضاحكة ، وكان الوقت ظهيرة ، والدنيا صيفا لافحا حره شديد قيظه ، وقد خلى المكان من كل أحد ، ووقفت تنظر للحمار يائسًا ، ثم إذا بك تبصر بجوار حائط بعيد دكة كان يسمر عليها القرويون ليالى الصيف ، فملت بالحمار إليها وارتقيتها واستويت عليه ، وأنا أرقص من الضحك ، وأخذت لجامه وعدوت به مقبلاً مدبرًا دقائق عدة ، ولكن يظهر أن اللعين مل هذه المداعبة السخيفة فى مثل هذا الحر القاتل ، فألقاك عن ظهره ، فوقعت على وجهك مطلقًا لحنجرتك المطواعة العنان ..!! فصرخت أنا ، وأرسلت الخادم إليك فجاءت بك وأنت تعول إعوالاً يقطع نياط القلب ، وأخذتك منها وحضنتك ومسحت ما علق بوجهك من التراب ، وكان قد شج صدغك وسال منه الدم ، فغسلته عنك بسرعة خوفاً من أن تراك أمك على هذه الحال فتجن ، ولم ألبث ، وقد رأيتك تتألم وتبكى أن حضنتك وملت على جبينك بفمى فقبلتك ، فتركت البكاء مرة واحدة ، وهويت بيدك الصغيرة على خدى وصفعتنى صفعة قوية ، وكانت هذه أول صفعة منك لأول قبلة منى ..
فقاض وجهه بالبشر وقال :
- وهل اقتصصت لنفسك ..؟
- يوه .. أبدًا .. ما كان أحد يجرؤ على أن يلمسك بطرف بنانه ، فلقد كنت مدللاً للغاية ، بيد أنى خفت بعد هذه الصفعة بأسك فما قبلتك وأنت صاح قط ، أما إذا جن الليل واحتواك الفراش وغرقت فى النوم قطعت فمك لثمًا ، وكثيرا ما كنت تنام معى ، وكم مرة حضنتك وأنت طفل صغير بارد الإحساس ..!
ونظرت إليه ووجهها ضاحك ..
فوضع يده على جبينه وأطرق مغالبًا انفعالاً باطنيًا شديدًا .. وسره تحسن حالها ، وجريان الدم فى عروقها ، وعودة الحياة تدب فى شرايينها ، فلم يشأ أن يشقق الحديث ، فقال وقد حول وجهه عنها :
- وأنا .. هل قبلتك بدورى فى ذلك الوقت ..؟
- أبدًا ما فعلتها قط فأنت دائمًا ..
ولم تتم كلامها ، بل نظرت إليه سادرة وصدرها يعلو ويهبط ..
- دائما ماذا ..؟
ورفع وجهه إليها ..
- لا أعرف ..
واغرورقت عيناها بالدمع بسرعة غريبة ، ثم سال دمعها على خدها ، وانطلقت بعد هذا تبكى فى صمت بكاءً مراً ، حتى أعولت ، فاستغرب لحالتها العصبية ، وقام عن كرسيه ، ووقف جنب سريرها ، وأمسك بيدها ليهدئ روعها ، فضغطت عليها بعنف ، وقد ازداد نحيبها ، وحرك يدها فى رفق ومسح عليها مهونًا ، وأراد أن يلمس كتفها وقد حولت وجهها عنه ودفنته فى الوسادة ، وهى تنشج نشيجا يمزق الصدر ، بيد أن إرادة قوية أمسكت بيده عن فعل هذا ، فوقف يتردد ، ثم تماسك وتجاسر ولمس كتفها فسرى فيه مثل الكهرباء ، وتدفق دمه فى عروقه ، ووجف قلبه وعلت أنفاسه ، وأدار كتفها ليرفع إليه وجهها ، فلاقته عيناها المخضلة فى نظرة طويلة أخاذة ، نفذت إلى قلبه ، واستحوذت على لبه ، فعلق بصره بوجهها ، وأخذا ينظران إلى بعضهما مدة طويلة ، وقد احتبس النفس .. وزاغ البصر .. وسكنت كل جارحة فى الجسم .. وسكنت كل خفقة للفؤاد .. وبقيا هكذا مدة ، حتى غشى عينيه ضباب كثيف ، وأمسى بعده لا يبصر ولا يعى شيئًا ، واستفاق على صوتها وهى تهزه هـزات عنيفة وتقول :
- أتحبنى أم لا ..؟
فوقف جامدًا كالمأخوذ متعجبًا من هذا السؤال الطارئ ..
وكررت ملحة :
ـ أتحبنى أم .. لا ..؟ أتحبنى أم لا ..؟ تكلم .. تكلم ..
وقد بدت التعاسة المرة على ملامح وجهها المضطرم ..
فقال بعد لأى بصوت خافت :
- أحبك ..
ولم يكن بد من هذا فى مثل هذا الموقف ، فمدت يدها بحركة عصبية عنيفة وأمسكت بيديه ، وجرته إليها بكل ما تملك من قوة ، ثم رفعت يديها بعد هذا إلى عنقه ، وقد استوت على سريرها محاولة أن تجذبه إلى صدرها ، ولكنه دفعها عنه برفق ، وكانت قد قامت فتشبثت بعنقه وارتمت على صدره ..
ولقد أثر فيه هذا تأثيرُا بليغًا فلف ذراعيه حولها ، وهم أن يهوى على فمها بقبلة ، ولكنه أحس بيد وضعت على عاتقه فجأة ، فجمد دمه وأحس ببرودة الثلج تسرى فى عموده الفقرى فجفل وتلفت مرتاعًا ، فإذا بابنها إسماعيل واقف بجواره ، وهو يبكى وينتحب ويهتف بأمه ..
وتلفتت الأم مذعورة فبصرت بإبنها ففتحت له ذراعيها ..
ـ إسماعيل .. إنت صحيت يا بابا .. تعال يا حبيبى .. تعال ..
وضمته إليها وهى تبكى بكاءً مرًا ..
***
وقف رشاد على إفريز المحطة يرقب القطار الذى سيقله إلى المدينة ، وهو مشتت الخاطر ذاهب اللب مروع الفؤاد ، وقد طافت برأسه شتى صور الصبا وأيامه ، فعاد يذكر سعاد فتاة فى سن المراهقة تمرح فى منزل والده فى الريف ، وتداعبه وتحنو عليه ، وهى عادة فى لباس من القطيفة الزرقاء شد على جسمها فأبرز مفاتنه وأظهر محاسنه ، ورجع يذكر ليالى الشتاء فى القرى ، وهى التى يحلو فيها السمر ويلذ الحديث وتروق الحكاية ، وذكر نفسه وهو جالس بجانبها منصتًا لأحاديث العجائز من القرويات ، وملتذًا بضحكاتها وتعليقاتها على كل قصة ..! فإذا أخذته عيناه نام فى مجلسه ، وصحا على حركتها وهى تحمله إلى فراشه ، ثم تقبله وتغطيه وقد تنام معه ، وما كان أحلى من لذة الدفء الذى كان يحسه وهو فى حضنها ، ثم حرارة شفتيها على شفتيه ، يالله للصبا وأيامه ..
ثم تصور نفسه بعد ذلك رجلاً ألقى بنفسه فى غمار الحياة ، ولكن الحياة أبدًا مدبرة عنه توليه ظهرها ، فقد عالج كل شيء وعاد من كل عمل بالخيبة المرة ، عالج الموسيقى ثم تحول عنها بعد الإخفاق إلى التدريس ، ثم نفض من هذه يده بعد أن ساءت حاله إلى الصحافة ، وصدف عن هذه إلى الأدب ، والأدب للفن ..! وأخفق فى هذا كله ، لم تكن حياته إلا سلسلة متعددة الحلقات من الخيبة المرة والتعاسة المضنية ليس إلا ..
على أنه لماذا أخفق ..؟ هلى كانت تنقصه الأداة ..؟ أكانت تنقصه الموهبة ..؟ أكان يعوزه الطبع ..؟ لا .. لا .. لقد كان قوى الأداة موهوبًا بالفطرة .. ولكنه كانت تعوزه الروح .. الروح .. الروح القوية الجارفة التى تطغى على كل شيء ، وتذلل كل عقبة ، وتعبد كل طريق ، لقد كان ينقصه القلب النابض بحرارة الحب لو أن هذه المخلوقة المنكودة قالت له منذ سنوات ما قالت له الليلة ، لبدل غير الرجل ، وأمسى غير الشريد المتشائم القوى الشك ، الضعيف الثقة بكل شيء فى الوجود .. هل يؤمن الآن بحبها ..؟ وهل يؤمن بالحب جملة .. لا .. لا .. هذه سخافات لا حد لها .. بيد أنه لم لا يحبها الآن بعد أن تيقن من حبها ثم يروح يستقبل الحياة من جديد ، ويمشى فى مسالكها بقلب مضئ ..
وكانت عيناه عند هذا قد لمحت ضوء القطار ، وهو قادم من بعيد ، ومقدمته تقدح الشرر وترمى اللهب ، ولمع الخط الحديدى عن بعد ، فرجف قلبه وغلى دمه وأخذ يرمق الخط ساهمًا ، وقد وقفت سلسلة أفكاره وجمد دمه فى عروقه وتصلبت عضلاته .. ماذا عليه لو أنهى حياته فى دقيقة واحدة فتطرح على هذا القضيب الحديدى ، وفى ثانية يتطاير فى الجو إربًا ، لماذا يعيش مخلوق مريض مثله ..؟ إن الحياة للأقوى والأصلح ، لا للمرضى والضعفاء أمثاله ، لا إرادة ولا قوة ولا أمل يبرق فى السماء ولا نجم يلوح فى الأفق ، لمن يعيش ..؟ وهتف به هاتف " عش لها " فأجابه مستخفًا " ومن هى ..؟ " إنه لم يعرفها بعد ، إنها ليست له .. إنها لرجل آخر .. أجل لرجل آخر ..
وتصورها .. وهى متمددة على السرير مريضة منكودة ، ونظراتها إليه ، فعاد دمه لهذا الخاطر يضطرب متدفقًا فى شرايينه ، وقالت له نفسه ، ماذا عليك لو ضممتها إليك مرة واحدة ، ثم أنهيت حياتك بيديك غير آسف على شيء فى الوجود ..؟ ماذا عليك لو ضممتها إلى صدرك مرة واحدة ..؟ ثم لتقم الساعة بعد ذلك .. مرة واحدة وليحدث الله بعد ذلك أمرًا ..
وتصور نفسه واضعًا فمه على فمها ، وهى بين ذراعيه ، فرفع عينيه إلى السماء ، وهو سادر ، والسحاب المركوم يتكاثف ليحجب سارى القمر والريح القوية ترنح سامق الشجر ، بيد أنه ما رأى القمر ولا أحس بالريح ، لقد كان كيانه كله محصورًا فى كيانها ، ماذا عليه لو ..
وقرع سمعه صفير القطار وهو داخل المحطة ، فانتبه مذعورًا ووقف يتردد ، هل يركب القطار أو يعود ..؟ يعود إلى أين ..؟ يعود إليها إنها تناديه ، إنها باسطة ذراعيها له ، إنها له وما كانت لسواه قط .. أبدًا أبدًا ما كانت لسواه ..
أجل فليرجع إليها ليكون لها إلى الأبد ..
وصفر القطار وتحرك ، وهو جامد كالتمثال ، ثم عدا ولحق بآخر عربة ، وجلس فى آخر مقعد ، يدخن ويرمق نجمًا بعيدًا فى الأفق ..
========================
نشرت القصة فى كتاب " رجل " سنة 1936
========================
النجم البعيد
اجتاز باب الحديقة إلى فنائها الرحب ودار مع مماشيها ، ثم صعد الدرج وقد تملكه إحساس غامض لم يعرف مأتاه تماما ، ولم يكن ذلك للسكون المخيم على المكان ، أو الوحشة الشديدة البادية فيما حوله – لأن المنزل كان يقع فى نهاية هذه الضاحية "حلوان " من الجهة الشرقية وكانت الليلة ، على غير عادة ، شديدة البرد هوجاء الريح وإن كان الصيف على الأبواب – وإنما كان لشعور باطنى مبهم أستحوذ عليه فى تلك الساعة بشكل عجيب .. فراح يتصور معه أن زياراته لتلك الأسرة قد تكررت فى الشهور الأخيرة وتعددت لغير ما سبب قوى ظاهر ، وحتى زورته هذه مثلا فى مثل هذه الساعة من الليل – كانت الساعة لم تبلغ التاسعة – لم يكن يعرف الباعث عليها بالدقة ، وإن كان يردها للظروف القهرية التى جرته إلى هذه المدينة فى هذا اليوم ، ولم تخرج هذه الظروف القهرية عن زيارات لبعض معارفه الأبعدين ..!
بيد أنه قرر فيما بينه وبين نفسه وعزم وأكد وقطع – ولا بأس من هذا كله – على أن يخفف من زياراته فى المستقبل حتى يقصرها على زورة كل شهر ، وأن يروح يعتذر للسيدة والسيد – فى حالة الإلحاح الشديد من جانبهما طبعا – بأن أعماله الجديدة تتطلب منه ذلك ، ولم تتعد هذه الأعمال الجديدة التحاقه بالقسم الأدبى بإحدى الصحف الصغيرة ، وبدا له أن الخير كل الخير فى أن يفاتحهما بالأمر الليلة ..
وكان قد وصل إلى الباب الخارجى عندما وصلت أفكاره إلى هذا الحد ، فضغط زر الجرس ونشر وراءه أذنيه يتسمع وقع الصدى وصوت الأقدام ، فهفا إليه همس ارتفع إلى كلام متقطع عقبته خطوات عجلى ، وانفرج الباب ولاحت الخادم ..
- أوه .. سيدى رشاد ..
وكأنها ما كانت تتوقع ، ولا يتوقع أحد معها ، مجيئه فى هذه الساعة من الليل ..
- سيدك هنا ..؟
- لا .. سيدى خرج ..
واستدار صاحبنا وولى الخادم ظهره وفكر فى الرجوع ، فالوقت متأخر والزيارة – وإن كانت لأقربائه الأدنين – غير لائقة بالمرة فى الليل ، وفى الساعة التاسعة ، والرجل غائب ، على أن الخادم قطعت عليه سلسلة أفكاره بقولها :
- ستى عيانة ..
- مين ..؟
- ستى عيانة من مدة ..
***
ومشى رشاد متئد الخطى فجاز الردهة وقد أحس بضغط دمه وازدياد ضربات قلبه ، ولم يكن ذلك لأنه سمع أن إحدى قريباته مريضة ، فإن كان ساوره من أجلها – دون شك – إحساس العطف الشديد ، على أن الاضطراب العنيف الذى اعتراه فى هذا الوقت لم يكن مبعثه هذا الخاطر وحده ، وإنما كان لشدة هاجسه وتبلبل خاطره وثقل وطأة أحزانه عليه ، وما كان هذا منه بحسن وهو مقبل على مريضة أقل ما تحتاجه تهلل السريرة وانشراح الصدر ، وكان قد وصل إلى باب غرفة المريضة ، فأدارت له الوصيفة الباب برفق ودعته يدخل ، فمشى خفيف الخطى ، وكانت المريضة متطرحة على السرير ، فلما بصرت به أرادت أن تعتمد على مرافقها وتستوى جالسة فأسرع هو يمنعها من ذلك ويقول :
- كما أنت .. استريحى ..
وأخذ يدها مصافحا بحرارة ، وقد علت وجهها الشاحب حمرة خفيفة ، وند فمها عن ابتسامة حلوة وأشارات إليه ..
- إجلس ..
وكان الكرسى قرب السرير فدفعه إلى الوراء خطوتين فقالت برقة :
- لا .. لا يارشاد .. دع الكرسى مكانه ..
ورنت إليه وقالت بصوت خافت :
- إجلس هنا ..
فلم يكن بد من أن يذعن ..
وجلس يرقب وجهها المصفر .. وقد تغضن الجبين .. وتكسر الجفن .. وخفت أهداب العين .. وارتسم الأسى على الشفة العطشى .. والفم الحالم .. وخف ضياء البشرة .. وغاض ماء العينين .. أواه .. كل شيء فيها كان يبعث على الشفقة الشديدة والأسف العميق ، وعلق بصره بها وجلس صامتا ، فعز عليه هذا الصمت وثقلت وطأته على نفسه ، فود لو يفتح الحديث بكلمة ، بيد أن مجرد التفكير فى هذا أربكه وحيره حتى فاض وجهه بالحمرة ..!! وكانت المريضة ترمقه من وقت لآخر وكأنها تقول له بعينيها :
- مالك هكذا لا تتكلم ..؟ قل شيئا ..
وأخيرا خرج بصمته عن :
- لم لم تخبرينى بمرضك ..؟
- كنت أظنه لا يطول هكذا .. وحسبتها أنفلونزا خفيفة فإذا بها شديدة مضنية ..
فقال فى نفسه ساخرا " انفلونزا " لا بأس .. لا بأس .. ثم سأل :
- مريضة منذ ..؟
- أسبوع ..
- ولكنك الآن تسيرين إلى العافية بخطوات واسعة ..
- أبدا .. أنا أسير إلى القبر ..
- لا تقولى هذا .. لقد شفيت تماما ..
- نرجو من الله ذلك ..
وكانت قد برقت عيناها عنذئذ ثم تكسرت أجفانها مدة أطبقتها بعدها وكأنها تقول له دعنا من هذا الحديث إلى غيره أمتع ..
ثم قالت فجأة وهى تبسم :
- ما أذكر أنى رأيتك مريضا يا رشاد .. أما أنا فما أذكر أنى شفيت من مرض إلا لأعود لما هو شر منه ..
وكان ذلك حقا ، فما ذكر نفسه مرض مرضا عضالا طرحه على الفراش ، غير مرتين أو ثلاث فى شبابه كله ، وكان ذلك فى الوقت الذى يتخاذل فيه جسمه فلا يقوى معه على التماسك أو السير ، أما إذا تماسك واشتد قليلا ، خرج يؤم الحدائق ويمشى فى الهواء الطلق فيذهب ما به تماما ..
أما هى ، فلها الله ، فما كانت حياتها إلا سلسلة آلام جسمانية ونفسية لا حد لها ، فهى تسلخ العام كله تشكو وجع المفاصل وثورة الأعصاب وتضخم الكبد و .. ولم يكن أيسر عليها من أن ترضخ لحكم المرض ، وتقر بالأمر الواقع ، وتستسلم للفراش ..
وانقشعت عن المريضة سحابة جهمة غشيته هو بدوره ، فلم يحر جوابا ، واستطردت تقول :
وكان ألذ شيء عندها الحديث معه ..
- وكان حالنا على النقيض من ذلك ونحن طفلان صغيران ، فأنت كثير المرض ، وأنا موفورة الحظ من العافية ، فما أذكر أنى مرضت وأنا فتاة مرضا يستحق التنويه ، أما أنت ، فشد ما لذعت فؤاد أمك ، وكانت تود أن تضيف " وفؤادى أيضا " ولكنها لم تجرأ على هذا ..
وأردفت بحزن :
- أما لماذا أنا مريضة دائما بعد زواجى فلذلك ما لا أعرف كنهه ..
وصمتت بعد هذا ووجهها مربد متغير ..
وأخذ رشاد يحدث نفسه " لم لا تعرفين سبب مرضك الطويل ..؟ لماذا لا يعرف هؤلاء الأطباء الذين عالجوك كل هذه السنين منبع مرضك وأصل بلواك ..؟ لم لا أقول لها بشجاعة : إن زوجك المخمور المريض هو الذى جر عليك هذا البلاء ، وأنك كالزهرة التى تتطلب دائما حرارة الشمس وماء الأرض ، لتنضر وتتفتح عن أجمل كأس ، وأطيب أريج ، وإلا ذبلت وصوحت ..
***
ودقت الساعة المعلقة فى الردهة الحادية عشرة ..
ولم يعد الزوج بعد ..
لم يعد الرجل الذى تعلقت بأسبابه سعاد بعد ..
لم يعد الزوج ، وإن قرب الليل من منتصفه ، حتى فى الليالى التى تعانى فيها آلام الحمى وأوجاع المرض ..
لقد لفه الشيطان فى طياته ، فما عاد يفكر فى الزوجة ولا الأسرة ولا البيت ، إنه دائما يفكر فى نفسه ويعمل لنفسه ..
خرج الرجل عن الأسرة ، ونفض يده من البيت ، ولم يعد الرجل للمنزل ..
لقد كافح وجالد وغالب وهو على شط اليم ليحمله الموج إلى جوفه ، على أن الموج كان دائما يقذفه إلى الشاطئ لينطح رأسه بالصخور ، وليس عنده الرأس التى تتحمل نطح الصخور ، فليعش فى دنياه ، ولتعش المرأة فى دنياها ..
إنه لم يعد الرجل الذى يصلح للمرأة ..
لقد كافح وجالد وغالب ليصل حبل الأسباب التى تقطعت ، ويصلح الأمور التى فسدت ، على أن كل شيء كان يرتد إلى الضد على الأيام ..
لقد كافح وجالد وغالب ليسترد الزوجة الهاربة ، إنها كانت دائما هاربة ، حتى فى غضون الساعات التى يخلو فيها معها ، إنها دائما هاربة عن دنيا الرجل إلى دنياها ، فلا بد وأن يعيش فى دنياه ..
إنه لا يستطيع أن يطويها تحت جناحه ، وهى هاربة هكذا ، فليدعها تهرب ، وليهرب كما هربت ..
ما الذى يعمله الرجل مع الشذوذ فى الجنس ..؟ لا شيء ، لا حول للرجل فى هذا ولا قوة ..
لابد وأن يعيش لنفسه ..
يقامر ، ويغشى الحانات ، ويرود الأندية ، ويجلس مع الصحب ، ولا يفكر فى الزوجة مطلقا ، ولا يفكر فى المرأة مطلقا ، بعد أن لمس بيده ما بينهما من بعد ..
لقد لفه الشيطان فى جوفه ، فما عاد يفكر فى الزوجة ولا البنين ولا الأسرة ولا البيت ، وإنما يفكر فى نفسه ويعمل لنفسه ..
***
ونظر رشاد إلى سعاد فرأى وجهها يصفر ، بعد دقات الساعة ، اصفرار وجوه الموتى ، فعز عليه هذا وآلمه ، ورأى أن يصرف ذهنها عن الخواطر المروعة التى حلت بها ، فأمسك قميصًا حريريًا ملقى على كرسى على يسراه ، وقلبه بين يديه معجبًا ببراعة صنعه وسألها :
- لمن هذا ..؟
فصمتت كأنها ما سمعت ، ثم قالت ، بعد لأى ، بصوت خافت كأنها تحدث نفسها :
- له ..
- ومن حاكه بلباقة هكذا ..؟
فلمعت عيناها قليلاً .. وقالت :
- أنا طبعًا ..
وكان قد رجع إليها بعض الانشراح فأردفت :
- أول شيء حكته من الملابس ، وأنا صغيرة ، كان لك ..
- لى أنا ..؟
- أجل ، بدأت أتعلم الحياكة وأنا فتاة فى سن المراهقة ، أقيم عندكم فى الريف ، وكان أول ما عملت جلبابًا لك ..
وأمسكت بيدها ملاءة السرير وأخذت تفركها فى حركة عصبية وقلق باد ..
وقال رشاد وقد نكس رأسه :
- أشكرك ..
- لا .. أنا التى أشكرك لأنى لولاك ما عرفت شيئًا ..
فقال وقد سره هذا :
- ولكن لماذا كان الجلباب لى أنا ..؟ ولم يكن لمختار أو كمال أو عثمان " إخوته " ..
- لأن هؤلاء جميعًا كانوا قد شبوا عن الطوق وانخرطوا فى عداد الرجال ، أما أنت ، فكنت صبيًا فى السابعة ناحل الجسم ، كما أنت الآن ، ولكنك جميل الطلعة خفيف الظل ، وليس هذا حالك الآن طبعًا ..
واستضحكت مغمغمة بأشياء لم يتبينها ، ثم أضافت فى صوت ساحر :
ـ فما أثقل اليوم ظلك وأشد كبرياءك ..
ـ أشكرك ..
ـ العفو ..
وتطلعت بوجهها الباسم إليه ، وكان قد رفع وجهه إليها ، فتلاقت عيناهما ، ثم أطرق ثانية وخيم الصمت ..
وكان ابنها إسماعيل – غلام فى التاسعة – نائمًا فى ركن من الحجرة ، وقد دفع غطاءه عن جسمه ، فمشى رشاد إليه بخفة وضم الغطاء عليه كما كان ، ثم طبع على جبينه قبلة وعاد إلى مقعده ، فألفى سعاد تبتسم إبتسامة لم ترتسم على فمها من قبل أبدًا ، ثم تطورت الابتسامة حتى انقلبت ضحكة جذلة ، فلم يجد بدًا من أن يسأل :
- مم تضحكين ..؟
- ذكرت شيئًا على ذكر قبلتك لاسماعيل ..
- ما هو ..؟
- سر ..
- تخفينه عنى ..؟
- أجل ..!
فتجهم وجهه وتغيرت سحنته ..
فقالت قبل أن يتطور :
- أتود أن تعرفه ..؟
فلم يجاوبها وازداد وجهه عبوسًا ، فتجاهلت حاله وقالت :
- إستمع إلى اذن ..
وغيرت من لهجة صوتها وواصلت حديثها :
- كنت ولوعًا فى طفولتك بركوب الحمير .. وكان والدك ينهرك عن هذا ويزجرك ، ويخاف من شرها عليك ، وهو يعلم مبلغ حب أمك لك ، على أنك كنت لا تفتأ تتحين الفرص لركوبها ، وحدث مرة أن قدم ضيف على والدك فى القرية وتحته حمار جميل – ولا بأس من هذا – نزل عنه وربط لجامه فى سرجه ، بعد أن شده إليه بقوة ، وأنت تلهو فى فناء البيت ، فبصرت بالحمار فطرت إليه ، وجررته إلى الخارج فطاوعك ، وأخذت تنظر يمنة ويسرة باحثًا عمن يعينك على ركوبه ، وأنا فى شرفة المنزل أرقبك ضاحكة ، وكان الوقت ظهيرة ، والدنيا صيفا لافحا حره شديد قيظه ، وقد خلى المكان من كل أحد ، ووقفت تنظر للحمار يائسًا ، ثم إذا بك تبصر بجوار حائط بعيد دكة كان يسمر عليها القرويون ليالى الصيف ، فملت بالحمار إليها وارتقيتها واستويت عليه ، وأنا أرقص من الضحك ، وأخذت لجامه وعدوت به مقبلاً مدبرًا دقائق عدة ، ولكن يظهر أن اللعين مل هذه المداعبة السخيفة فى مثل هذا الحر القاتل ، فألقاك عن ظهره ، فوقعت على وجهك مطلقًا لحنجرتك المطواعة العنان ..!! فصرخت أنا ، وأرسلت الخادم إليك فجاءت بك وأنت تعول إعوالاً يقطع نياط القلب ، وأخذتك منها وحضنتك ومسحت ما علق بوجهك من التراب ، وكان قد شج صدغك وسال منه الدم ، فغسلته عنك بسرعة خوفاً من أن تراك أمك على هذه الحال فتجن ، ولم ألبث ، وقد رأيتك تتألم وتبكى أن حضنتك وملت على جبينك بفمى فقبلتك ، فتركت البكاء مرة واحدة ، وهويت بيدك الصغيرة على خدى وصفعتنى صفعة قوية ، وكانت هذه أول صفعة منك لأول قبلة منى ..
فقاض وجهه بالبشر وقال :
- وهل اقتصصت لنفسك ..؟
- يوه .. أبدًا .. ما كان أحد يجرؤ على أن يلمسك بطرف بنانه ، فلقد كنت مدللاً للغاية ، بيد أنى خفت بعد هذه الصفعة بأسك فما قبلتك وأنت صاح قط ، أما إذا جن الليل واحتواك الفراش وغرقت فى النوم قطعت فمك لثمًا ، وكثيرا ما كنت تنام معى ، وكم مرة حضنتك وأنت طفل صغير بارد الإحساس ..!
ونظرت إليه ووجهها ضاحك ..
فوضع يده على جبينه وأطرق مغالبًا انفعالاً باطنيًا شديدًا .. وسره تحسن حالها ، وجريان الدم فى عروقها ، وعودة الحياة تدب فى شرايينها ، فلم يشأ أن يشقق الحديث ، فقال وقد حول وجهه عنها :
- وأنا .. هل قبلتك بدورى فى ذلك الوقت ..؟
- أبدًا ما فعلتها قط فأنت دائمًا ..
ولم تتم كلامها ، بل نظرت إليه سادرة وصدرها يعلو ويهبط ..
- دائما ماذا ..؟
ورفع وجهه إليها ..
- لا أعرف ..
واغرورقت عيناها بالدمع بسرعة غريبة ، ثم سال دمعها على خدها ، وانطلقت بعد هذا تبكى فى صمت بكاءً مراً ، حتى أعولت ، فاستغرب لحالتها العصبية ، وقام عن كرسيه ، ووقف جنب سريرها ، وأمسك بيدها ليهدئ روعها ، فضغطت عليها بعنف ، وقد ازداد نحيبها ، وحرك يدها فى رفق ومسح عليها مهونًا ، وأراد أن يلمس كتفها وقد حولت وجهها عنه ودفنته فى الوسادة ، وهى تنشج نشيجا يمزق الصدر ، بيد أن إرادة قوية أمسكت بيده عن فعل هذا ، فوقف يتردد ، ثم تماسك وتجاسر ولمس كتفها فسرى فيه مثل الكهرباء ، وتدفق دمه فى عروقه ، ووجف قلبه وعلت أنفاسه ، وأدار كتفها ليرفع إليه وجهها ، فلاقته عيناها المخضلة فى نظرة طويلة أخاذة ، نفذت إلى قلبه ، واستحوذت على لبه ، فعلق بصره بوجهها ، وأخذا ينظران إلى بعضهما مدة طويلة ، وقد احتبس النفس .. وزاغ البصر .. وسكنت كل جارحة فى الجسم .. وسكنت كل خفقة للفؤاد .. وبقيا هكذا مدة ، حتى غشى عينيه ضباب كثيف ، وأمسى بعده لا يبصر ولا يعى شيئًا ، واستفاق على صوتها وهى تهزه هـزات عنيفة وتقول :
- أتحبنى أم لا ..؟
فوقف جامدًا كالمأخوذ متعجبًا من هذا السؤال الطارئ ..
وكررت ملحة :
ـ أتحبنى أم .. لا ..؟ أتحبنى أم لا ..؟ تكلم .. تكلم ..
وقد بدت التعاسة المرة على ملامح وجهها المضطرم ..
فقال بعد لأى بصوت خافت :
- أحبك ..
ولم يكن بد من هذا فى مثل هذا الموقف ، فمدت يدها بحركة عصبية عنيفة وأمسكت بيديه ، وجرته إليها بكل ما تملك من قوة ، ثم رفعت يديها بعد هذا إلى عنقه ، وقد استوت على سريرها محاولة أن تجذبه إلى صدرها ، ولكنه دفعها عنه برفق ، وكانت قد قامت فتشبثت بعنقه وارتمت على صدره ..
ولقد أثر فيه هذا تأثيرُا بليغًا فلف ذراعيه حولها ، وهم أن يهوى على فمها بقبلة ، ولكنه أحس بيد وضعت على عاتقه فجأة ، فجمد دمه وأحس ببرودة الثلج تسرى فى عموده الفقرى فجفل وتلفت مرتاعًا ، فإذا بابنها إسماعيل واقف بجواره ، وهو يبكى وينتحب ويهتف بأمه ..
وتلفتت الأم مذعورة فبصرت بإبنها ففتحت له ذراعيها ..
ـ إسماعيل .. إنت صحيت يا بابا .. تعال يا حبيبى .. تعال ..
وضمته إليها وهى تبكى بكاءً مرًا ..
***
وقف رشاد على إفريز المحطة يرقب القطار الذى سيقله إلى المدينة ، وهو مشتت الخاطر ذاهب اللب مروع الفؤاد ، وقد طافت برأسه شتى صور الصبا وأيامه ، فعاد يذكر سعاد فتاة فى سن المراهقة تمرح فى منزل والده فى الريف ، وتداعبه وتحنو عليه ، وهى عادة فى لباس من القطيفة الزرقاء شد على جسمها فأبرز مفاتنه وأظهر محاسنه ، ورجع يذكر ليالى الشتاء فى القرى ، وهى التى يحلو فيها السمر ويلذ الحديث وتروق الحكاية ، وذكر نفسه وهو جالس بجانبها منصتًا لأحاديث العجائز من القرويات ، وملتذًا بضحكاتها وتعليقاتها على كل قصة ..! فإذا أخذته عيناه نام فى مجلسه ، وصحا على حركتها وهى تحمله إلى فراشه ، ثم تقبله وتغطيه وقد تنام معه ، وما كان أحلى من لذة الدفء الذى كان يحسه وهو فى حضنها ، ثم حرارة شفتيها على شفتيه ، يالله للصبا وأيامه ..
ثم تصور نفسه بعد ذلك رجلاً ألقى بنفسه فى غمار الحياة ، ولكن الحياة أبدًا مدبرة عنه توليه ظهرها ، فقد عالج كل شيء وعاد من كل عمل بالخيبة المرة ، عالج الموسيقى ثم تحول عنها بعد الإخفاق إلى التدريس ، ثم نفض من هذه يده بعد أن ساءت حاله إلى الصحافة ، وصدف عن هذه إلى الأدب ، والأدب للفن ..! وأخفق فى هذا كله ، لم تكن حياته إلا سلسلة متعددة الحلقات من الخيبة المرة والتعاسة المضنية ليس إلا ..
على أنه لماذا أخفق ..؟ هلى كانت تنقصه الأداة ..؟ أكانت تنقصه الموهبة ..؟ أكان يعوزه الطبع ..؟ لا .. لا .. لقد كان قوى الأداة موهوبًا بالفطرة .. ولكنه كانت تعوزه الروح .. الروح .. الروح القوية الجارفة التى تطغى على كل شيء ، وتذلل كل عقبة ، وتعبد كل طريق ، لقد كان ينقصه القلب النابض بحرارة الحب لو أن هذه المخلوقة المنكودة قالت له منذ سنوات ما قالت له الليلة ، لبدل غير الرجل ، وأمسى غير الشريد المتشائم القوى الشك ، الضعيف الثقة بكل شيء فى الوجود .. هل يؤمن الآن بحبها ..؟ وهل يؤمن بالحب جملة .. لا .. لا .. هذه سخافات لا حد لها .. بيد أنه لم لا يحبها الآن بعد أن تيقن من حبها ثم يروح يستقبل الحياة من جديد ، ويمشى فى مسالكها بقلب مضئ ..
وكانت عيناه عند هذا قد لمحت ضوء القطار ، وهو قادم من بعيد ، ومقدمته تقدح الشرر وترمى اللهب ، ولمع الخط الحديدى عن بعد ، فرجف قلبه وغلى دمه وأخذ يرمق الخط ساهمًا ، وقد وقفت سلسلة أفكاره وجمد دمه فى عروقه وتصلبت عضلاته .. ماذا عليه لو أنهى حياته فى دقيقة واحدة فتطرح على هذا القضيب الحديدى ، وفى ثانية يتطاير فى الجو إربًا ، لماذا يعيش مخلوق مريض مثله ..؟ إن الحياة للأقوى والأصلح ، لا للمرضى والضعفاء أمثاله ، لا إرادة ولا قوة ولا أمل يبرق فى السماء ولا نجم يلوح فى الأفق ، لمن يعيش ..؟ وهتف به هاتف " عش لها " فأجابه مستخفًا " ومن هى ..؟ " إنه لم يعرفها بعد ، إنها ليست له .. إنها لرجل آخر .. أجل لرجل آخر ..
وتصورها .. وهى متمددة على السرير مريضة منكودة ، ونظراتها إليه ، فعاد دمه لهذا الخاطر يضطرب متدفقًا فى شرايينه ، وقالت له نفسه ، ماذا عليك لو ضممتها إليك مرة واحدة ، ثم أنهيت حياتك بيديك غير آسف على شيء فى الوجود ..؟ ماذا عليك لو ضممتها إلى صدرك مرة واحدة ..؟ ثم لتقم الساعة بعد ذلك .. مرة واحدة وليحدث الله بعد ذلك أمرًا ..
وتصور نفسه واضعًا فمه على فمها ، وهى بين ذراعيه ، فرفع عينيه إلى السماء ، وهو سادر ، والسحاب المركوم يتكاثف ليحجب سارى القمر والريح القوية ترنح سامق الشجر ، بيد أنه ما رأى القمر ولا أحس بالريح ، لقد كان كيانه كله محصورًا فى كيانها ، ماذا عليه لو ..
وقرع سمعه صفير القطار وهو داخل المحطة ، فانتبه مذعورًا ووقف يتردد ، هل يركب القطار أو يعود ..؟ يعود إلى أين ..؟ يعود إليها إنها تناديه ، إنها باسطة ذراعيها له ، إنها له وما كانت لسواه قط .. أبدًا أبدًا ما كانت لسواه ..
أجل فليرجع إليها ليكون لها إلى الأبد ..
وصفر القطار وتحرك ، وهو جامد كالتمثال ، ثم عدا ولحق بآخر عربة ، وجلس فى آخر مقعد ، يدخن ويرمق نجمًا بعيدًا فى الأفق ..
========================
نشرت القصة فى كتاب " رجل " سنة 1936
========================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق